السبت، 27 يونيو 2015

مراقبة الجوارح في شهر رمضان

مراقبة الجوارح في شهر رمضان

((وتزودوا في شهر الله))
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول﴾1.

تعتبر الحواسّ من الألطاف الربانية والنعم الإلهية التي أنعم الله بها على الإنسان والتي لولاها لكانت الحياة شبه مستحيلة، إلّا أنّ هذه الحواسّ هي كذلك مسؤولية كبرى على عاتق الإنسان كما بيّن القرآن الكريم، فمن صانها وصقلها وأحسن استخدامها فيما أحلّ الله جعلها طريقاً إلى الجنة والرضوان، ومن تركها على هواها وألقى حبلها على غاربها قادته إلى العذاب والشقاء، ولذلك نجد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد شدّد في خطبته الغرّاء في استقبال شهر رمضان على ضرورة تهذيب الجوارح سيّما اللسان، والعين، والأذن، من خلال الكلام الآثم والنظر المحرّم، والاستماع إلى المحرّمات، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم،وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم"2.

وسنقتصر في الكلام هنا على المراقبات الخاصّة باللسان والبصر والسمع.

مراقبات اللسان

جاء في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ اللسان فإكرامه عن الخنى وتعويده على الخير وحمله على الأدب وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لايؤمن ضررها مع قلّة عائدتها، ويعد شاهد العقلوالدليل عليه وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

واللسان من أكثر الأعضاء التي تحتاج إلى مراقبة وحذر سيّما خلال الشهر المبارك، والأصل الذي يجب اعتماده هو أصل السكوت والصمت، فالأصل في الإنسان الصمت وعدم الكلام إلا لحاجة، بخلاف ما يتوهّمه البعض من أنّ الإنسان يجب أن يتكلمفي كلّ شيء سواء فيما يعنيه أو ما لا يعنيه، بل ترى الكثيرين في مجتمعاتنا اليوم يتنافسون في المجالس على كثرة الكلام بعيداً عن نوع هذا الكلام وأهميته وحاجة المستمعين له ومناسبته للمقام والمقال ورغبة المستمعين بالسماع وإلى غير ذلك منالأمور التي يجب مراقبتها فيما نقوله ونتحدث به.

فالصمت نجاة وسلامة ووقار وحاجز دون الإثم والمعصية وخصلة من خصال الإيمان والورع والحكمة التي جعلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل أعمال الشهر.

مراقبات العين

قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَ﴾3.

وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾4.

وجاء في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ البصر فغضُّه عمّا لا يحلّ لك، وتعتبر بالنظر به، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل به بصراً أو تستفيد به علماً، فإنّ البصر باب الاعتبار"5.

ويبين الإمام السجّاد في هذا المقطع أموراً ثلاثة لا ينبغي للبصر أن يتجاوزها:

1- الغضّ عن الحرام: ونؤكّد هنا على بعض المحرّمات التي تبثّ عبر الشاشات وما تحويه من برامج خلاعية وماجنة وعبثية وما تعرضه المواقع الالكترونية من فساد وإظهار لمفاتن الجسد والمشاهد المثيرة والبذيئة التي تتنافى مع أبسط قواعدالحشمة والأخلاق.

كما يجب التنبيه على ضرورة مراعاة هذا الشهر الكريم في الإعلانات والدعايات والصور التي تعرض في الشوارع والتي تخالف عفَّة المجتمع وتقوّي الإغراءات وتساهم مساهمة كبرى في تدمير المجتمع.

2- جعل النظر وسيلة للإعتبار: أوليس كلّ ما في الوجود من السموات والأرضين والبحار والنجوم بل والمجرّات وأسرار الخلق في الإنسان والحيوان والنبات والجماد كله يقودك إلى عظمة هذا الخالق وكمال صفاته وضرورة السباحة في فلكه وإطلاق كمال العبودية له؟

3- الاستفادة منه في كسب العلوم والمعارف: وذلك من خلال المطالعة وقراءة الكتب والإصدارات النافعة وقراءة القرآن والأدعية والقيام بالأنشطة المناسبة لحرمة الشهر.

ومن المهمّ الإشارة إلى ما يمكن للمرء أن يستعين به على غضّ البصر كما دلّت على ذلك النصوص، فعن الإمام الصادق عليها السلام: "ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغض البصر، فإنّ البصر لا يغضَّ عن محارم الله إلا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال"6.

وسئل أمير المؤمنين عليه السلام: "بمَ يستعان على غضّ البصر؟ فقال: "بالخمود تحت سلطان المطَّلع على سترك"7.

مراقبات السمع

قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾8.

وقال تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾9.

والسمع من أعظم النعم إن وعى المرء ما يسمع وفقه ما يدخل أذنيه، بل لعلّ الآية المتقدّمة جعلت السمع عدل العقل إن وعت القلوب، وأمّا مع غفلة القلوب فلا سبيل للهداية أبداً، وقال تعالى: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾10.

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾11.

وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "فيا لها أمثالاً صائبة، ومواعظ شافية، لو صادفت قلوباً زاكية، وأسماعاً واعية"12.

وجاء في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً أو تكسب خُلُقاً كريماً فإنه باب الكلام إلى القلب يؤدّي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شرّ ولا قوّة إلا بالله"13.

ومن هنا فليراقب كلٌّ منا ما يسمع من قول، فإنّ المستمع للغِيبة شريك القائل والمستمع للموسيقى يُنبت النفاق في قلبه والمستمع للوشاية يُضعف لحمة المسلمين ناهيك عن التملّق والغشّ والأيمان الكاذبة وقول الزور والتنصّت على أسرار الناس وغير ذلك مما يدخل في الأسماع فيتحول وقراً على القلوب فيمنع من وعي ما سمعت أو تعقّل ما أدركت.

* كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- سورة الاسراء، الآية 36.
2- الأمالي، ص 154.
3- سورة النور، الآيتان 30 ـ 31 .
4- سورة غافر، الآية 19 .
5- شرح رسالة الحقوق، ص 145.
6- بحار الأنوار ، ج101 ، ص41 .
7- نفس المصدر .
8- سورة الملك، الآية 10.
9- سورة الحاقة، الآية 12.
10- سورة الأعراف، الآية 198.
11- سورة الأعراف، الآية 179.
12- نهج البلاغة، ج1، ص 137.
13- تحف العقول، ص 279.

الأبعاد المعنوية للصوم

الأبعاد المعنوية للصوم

((وتزودوا في شهر الله))
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله عزّ وجلّ: "كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فانه لي وأنا أجزي به"1.

لا شكّ أنّ عبادة الصوم من العبادات المتميزة من سواها من العبادات وإلا لما اختار الله لها أفضل الشهور على الإطلاق ليكون زماناً وظرفاً لأدائها، وهذا دأب الشرع في كثير من الأعياد والمناسبات بل وحتى بعض الزيارات والأفعال المستحبّة التيربطها الشرع بقضايا أساسية أراد لها الله أن تبقى خالدة وتبقى مدرسة مفتوحة تربي الأجيال على مر العصور والدهور، وباعتقادي أنّ العلاقة بين فريضة الصوم وشهر رمضان هي أنّ الصوم يكبح جماح المرء في الخطأ إلى الحدّ الأقصى، بينما يفتحشهر رمضان آفاق العمل الصالح إلى حدّه الأقصى فيرتقي المرء معارج الكمال كما لا يرتقيه في غيره من الشهور.


لو تأمّلنا مليًّا في هذا الحديث الشريف لظهر لنا جليًّا أنّ فيه ثلاثة أبعاد مهمة:

1- البعد السلوكي: والمراد به أنّ عبادة الصوم تختلف عن بقية العبادات في أنها عبادة ترك وامتناع وليست عبادة فعل وعمل، بمعنى أن جميع العبادات لا يستطيع الإنسان أن يؤديها من خلال أفعال ظاهرية يقوم بها ولا يستطيع أن يخفيها أو يكتمها،فالصلاة لها أفعالها التي يمارسها الإنسان ولها أثر خارجي، وكذا الزكاة وكذلك الحجّ ومناسكه، وكذا الأمربالمعروف والنهي عن المنكر.. إلى غير ذلك من سائر العبادات، أمّا الصوم فليس له مظهرخارجي، لأنه عبادة يعصم المرء نفسه عن جملة منالأمور، ولكنه لا يمارس أيّ فعل يُظهره أنه صائم، فقد أكون صائمًا سواء في شهر رمضان أو سواه من الشهور ولا يعلم أحد بأني صائم، وقد أكون مفطراً وأظهر أمام الناس أني صائم.

ومعنى أنه ليس للصوم مظهر خارجيّ يعني انه اتصال مباشر بالله بلا مظهر خارجيّ، ولا يطّلع على حقيقة هذا الصوم وجوهره إلا الله سبحانه وتعالى، فهذه الخصوصية في الصوم تدلُّ على تربية الإنسان على أن تكون نيته خالصة لوجه الله في جميعالعبادات انطلاقاً من عبادة الصوم المكتومة. فالصوم سرّ من أسرار الإخلاص لله تعالى، لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله. فإِن الصائمَ إذا ابتعد عن أعين الناس يتمكّن منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ ، لأنه يعلم أن له ربّاًيطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك كان الصوم باباً إلى الإخلاص وبالتالي فقد شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واعتبر هذه الفريضة مختصةً به فصيامُه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: "يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي"2.

2- البعد الجزائي: أي ما يرتبط بالثواب، فلمّا كانت فريضة الصوم عبادة مكتومة بين العبد وربّه كان ثواب الصوم مكتوماً أيضاً إذ إننا لا نجد في النصوص ما يحدّد ثواب الصوم وحسناته ودرجته ومقدار الجزاء الذي يستحقه كما نرى ذلك في بقيةالعبادات، لأن الله استأثرَ ذلك له تشويقاً لعباده على الصوم. فإن الله قال في الصوم: (وأَنَا أجْزي به)3 فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ، لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد، فالحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ، وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها. فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب. والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله،وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَدْ قَالَ الله تَعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾4.

3- البعد الفعلي: ومعناه أداء هذه الفريضة على حقيقتها ووفق الصورة الباطنية التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فليس كلّ صوم صوماً يقرّبك من الله ولا كلّ قيام قياماً خالصاً لوجهه الكريم، ولذلك نقرأ في الدعاء في أوّل يوم من رمضان… "اللهمّ اجعل صيامي فيه صيام الصائمين وقيامي فيه قيام القائمين ونبهني فيه من نومة الغافلين"5.

ولو سأل سائل كيف يكون الصيام كصيام الصائمين والقيام كقيام القائمين لكان الجواب ماقاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر بن عبد الله: "يا جابر، هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر"6.

فالصوم في حقيقته مدرسة تربوية تعيد بناء الداخل من جديد لتصنع باطن الإنسان وتُصفّي سريرته وتنقّي قلبه وتجعله أكثر تذكّراً للآخرة وشعوراً بأهوالها وعقباتها، وهذا معنى الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "للصائم فرحتان، فرحة عند إفطاره،وفرحة يوم يلقى ربه"7.

فهي فرحة الانتصار على العدوّ الداخلي والسموّ في معارج الكمال وإلا لما جعل الله هذه الفرحة موازيةً لفرحة لقائه، وبالتالي فإنّ جعلها في كفتي ميزانه تعالى في مقابل لقائه ينسجم مع كون فرحة لقائه تعادل فرحة الانتصار على الشيطان.

وفي النهاية نختم بالحديث الذي يجب أن نتذكّره دائماً خلال أداء هذه الفريضة والمروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى. قال: الصوم يسوِّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه"8.

قصة وعبرة

ومن أجمل المواقف التي من خلالها يتطلّع الإنسان إلى قيمة هذه الدعوة موقف الأعرابيّ مع الحجّاج الذي بين الأعرابي من خلاله للحجّاج أنّ الصوم دعوة إلهية فقد خرج الحجّاج ذات يوم قائظ فأُحضر له الغداء فقال: اطلبوا من يتغدَّى معنا، فطلبوا فلم يجدوا إلا أعرابيًّا، فأتوا به فدار بين الحجّاج والأعرابي هذا الحوار.
الحجّاج: هلمّ أيها الأعرابّي لنتناول طعام الغداء.
الأعرابيّ: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته.
الحجّاج: من هو؟
الأعرابي: الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصيام فأنا صائم.
الحجّاج: أَصَوْمٌ في مثل هذا اليوم على حرّه؟
الأعرابيّ: صمتُ ليوم أشدّ منه حرّاً.
الحجّاج: أفطر اليوم وصُمْ غداً.
الأعرابيّ: أَوَ يضمن الأمير أن أعيش إلى الغد ؟
الحجّاج: ليس ذلك إليّ، فعلم ذلك عند الله.
الأعرابيّ: فكيف تسألني عاجلاً بآجل ليس إليه من سبيل.
الحجّاج: إنه طعام طيّب.
الأعرابيّ: والله ما طيّبه خبّازك وطبّاخك، ولكن طيَّبته العافية9.

* كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- الوسائل، ج10، ص404.
2- كنز العمال، ج8، ص448.
3- كنز العمال، ج8، ص448.
4- سورة الزمر، الآية 10.
5- المصباح، ص 613.
6- مشارق الشموس، المحقق الخوانساري، ج 2، ص 436.
7- الكافي، ج4، ص65.
8- الكافي، ج4، ص62.
9- شرح نهج البلاغة، ج6، ص 235.



الصيام والتقوى

الصيام والتقوى

((وتزودوا في شهر الله))
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾1.

من الواضح من خلال الآية المتقدّمة أنّ الله جعل الصيام مقدّمةً وطريقاً لبلوغ التقوى، وهذا كاشف عن عظمة هذه الفريضة من خلال عظمة الثمرة التي نجنيها والمعلول الذي تحققه هذه العلّة، لكنّ الأهمّ في الآية أنها لا تحدّثنا عن التقوى في بعدها الفرديّبل عن التقوى في بعدها المجتمعيّ، فهي عبادة يقوم بها المسلمون معاً في شهرٍ واحد وفي فترة محدّدة للجميع بين السحور والإفطار لتنتج في النهاية مجتمعاً تقياً ورعاً مراقباً لأعماله وأقواله في كلّ كبيرةٍ وصغيرة، ولا يخفى أنّ التقوى التي يحرزهاالمجتمع وعموم المسلمين لها آثارها وبركاتها وألطافها التي لا تعد ولا تُحصى على جميع أفراد المجتمع.

والتقوى التي نرجوها من عبادة الصوم هي تلك الملكة التي تجعل صاحبها في حالة من الرقابة المستمرّة والدائمة لكلّ ما يصدر عنه صغيراً كان أو كبيراً، فيكون من آثارها أنها تعصمه عن الخطأ والمعصية والرذيلة.

فالتقوى في بعدها العمليّ هي هذا الاحتراز والحذر الدائم واليقظة المتواصلة، ولذلك فإنّ علماء الأخلاق جعلوا الغفلة وعدم التبصّر في الأشياء على الحدّ المقابل للتقوى.

علاقة الصيام بالتقوى

ويساهم الصيام بصناعة التقوى - كلٌّ بحسبه - بمعناها المتقدم سواء على المستوى الفرديّ أو المجتمعيّ، ونخصّ بالذكر هنا النقاط التالية:

1- السيطرة على الأهواء في شهر رمضان حيث الأجواء أكثر إتاحة والراحل إليه قريب المسافة، والانتصار في معركة الجهاد الأكبر في لحظةٍ أيدي الشياطين مغلولة وأبواب النيران مغلقة أكبر أملاً وفرصةً، فالصوم يساهم في الفوز في هذه المعركةالتي هي حقيقة التقوى.

2- الربط بين أهوال يوم القيامة والجوع والعطش، وإلا فماذا ينتفع الصائم بصومه ما لم يتذكّر أهوال يوم القيامة، وما لم يكن هذا التذكّر معبراً لفعل الخيرات والإحجام عن الأفعال التي نهى الله عنها؟

بل إنّ هذا الجوع والعطش كما تشير الروايات ليس سوى حالة ظاهرية تقودك إلى ما هو أبعد من ذلك من الأبعاد النفسية والروحية.

3- إنّ الأداء الجماعيّ لهذه الفريضة يترك أثراً بالغاً في النفس، فتماماً كما أنّ الجو الجماعيّ للمعصية يشجّع المرء على استسهال ارتكابها ويخفّف في نفسه الورع والاجتناب عنها فكذلك فإنّ الجوّ الجماعيّ للعبادة يساهم في تقوية أدائها بأفضلصورها، فالإنسان بطبعه لا يأنس بفعلٍ ينفرد به أو لا يتفق مع الآخرين عليه، أمّا في الصوم فالجميع متساوون في هذا الجوع والعطش، وبالتالي فسوف يتضاعف سعي الإنسان لاغتنام فرصة أداء هذه الفريضة على مستواه الباطنيّ ودون الاقتصارعلى الظاهر.

الآثار المترتبة على التقوى.

التقوى في حقيقتها لها آثارمتعددة لكن يمكن اختصارها بمقام الولاية الحقّة لله تعالى، بحيث لا يكون بينه وبين الله حجاب، ويصبح مولى لله تعالى، والله وليه، والقرآن الكريم أبان الآثار المترتبة على التقوى نذكر أهمّها:

الأول: الفوز يوم القيامة: قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾2. فالصوم باب إلى التقوى التي بدورها باب لتكفير السيئات والفوز بجنات النعيم في الآخرة.

الثاني: التقوى غاية العبادة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾3. فالتقوى التي جعلها الله غاية العبادات جعلها في مكانٍ آخر غاية الصيام، وهذا يعني أنّ عبادة الصوم من العبادات الاستثنائية على مستوى صناعة باطن الإنسان وبناء سريرته وتخليصه من شوائب ما علق على أطراف قلبه ونفسه.

الثالث: البشرى في الدنيا والآخرة: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾4.

فالتقوى بصريح القرآن نعيم في الدنيا والآخرة، وقد استخدم الله التعبير نفسه في الدنيا والآخرة وهو (البشرى) ليدلّل على عظيم البركات لهذه المنقبة والتي أطلق الله على مجموعهما تعبير (الفوز العظيم)، وهل بعد ذلك مقام وشأن ورفعة يبلغها المرء ببركة الصيام؟

الرابعة: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾5: وهذا من أعظم بركات التقوى حين تصبح هذه الأعمال مقبولةً عند الله فلا يستصغر الإنسان عملاً بعد قبوله ولا يمتنع أو يتلكّأ عن عملٍ ما دام مقبولاً، وهذا من أكبر الغايات التي ننشدها جميعاً في أعمالنا التيننظر إليها دائماً بعين الخوف من أن تكون غير محرزة لرضى الله وقبوله.

الخامس: العناية الإلهية: فالإنسان التقيّ يبقى في عين الله بحيث لا تُسد عليه كافّة أبواب حياته المادية والمعنوية، فيُهيِّئ الله تعالى له المخارج من حيث لا يحسب وييسّر له أبواب الرزق من حيث لا يحتسب، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً﴾6.

* كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- سورة البقرة، الآية 183.
2- سورة المائدة، الآية 65.
3- سورة البقرة، الآية 21.
4- سورة يونس، الآيتان 63 ـ 64.
5- سورة المائدة، الآية 27.
6- سورة الطلاق، الآيتان 2 ـ 3.

الورع عن محارم الله

الورع عن محارم الله

((وتزودوا في شهر الله))
... فسأله أمير المؤمنين عليه السلام: "ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ"1.

من أهمّ المراقبات التي ينبغي أن نوليها اهتماماً خاصّاً في شهر رمضان مسألة الورع والإحجام عن المحرّمات لما له من أهمية خاصّة، إذ اتفق علماء الأخلاق أنّ التخلية بما تعني اجتناب النفس للرذائل والمحرّمات تعتبر أساساً للبناء الأخلاقي التي سُيقامعلى أرض النفس الإنسانية، وبالتالي فإنّ الورع بما يعني الملكة أو الحالة النفسية التي تعصم صاحبها عن الدخول في الشبهات والمحرّمات بل تتعداها إلى بعض المباحات من الطبيعي أن تشكل العمود الفقريّ لحالة التخلية الأخلاقية، ولذلك اعتبرتالروايات الشريفة أنّ الورع أساس الدين وشيمة المخلصين ومصلح النفوس والأديان وعمارة العلم حتى ورد عن الإمام علي عليه السلام: "ورع الرجل على قدر دينه"2.

دور الورع في العبادة

وقد أكَّدت الروايات الشريفة الأخرى أولوية الورع عن محارم الله على غيره من الأعمال، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "تَرْكُ لقمة الحرام أحبّ إلى الله من صلاة ألفي ركعة تطوعاً…3" وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "غضّ الطرف عن محارم الله أفضل عبادة"4 وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "من أجتنب ما حرّم الله فهو من أعبد الناس"5.

ويتعدّى القبول ليشمل كافّة المعاملات مع أهل الورع فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الصلاة خلف رجل ورع مقبولة، والهدية إلى رجل ورع مقبولة، والجلوس مع رجل ورع من العبادة، والمذاكرة معه صدقة".

أ- من أهل الجنة بلا حساب:6 فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تعالى: يا موسى، إنه لن يلقاني عبد في حاضر القيامة إلا فتشته عمّا في يديه إلا من كان من الورعين، فإني استحييهم وأجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنّة بغير حساب"7.

ب- أفضل التقرّب: والورع عن محارم الله سبحانه لا يقلّ درجة عن التقرب إلى الله بالفرائض، فعن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: "فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى عليه السلام يا موسى ما تقرب إليّ المتقربون بمثل الورع عن محارمي فإني أبيحهم جنات عدن لاأشرك معهم أحدا8"ً.

ج- شيمة الوالين: عن الإمام عليّ عليه السلام: "من أحبّنا فليعمل بعملنا وليستعن بالورع، فإنه أفضل ما يستعان به في أمر الدنيا والآخرة"9.

الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بالورع، فإنه الدين الذي نلازمه، وندين الله به، ونريده ممن يوالينا"10.

وعن الإمام الباقر عليه السلام - لخيثمة، لما دخل عليه ليودعه -: "أبلغ موالينا السلام عنّا، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأعلمهم يا خيثمة أنا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل، ولن ينالوا ولايتنا إلا بورع"11.

د - جليس الله: والمراد هنا مقام القرب من المليك المقتدر الذي يناله الورِع، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "جلساء الله غداً أهل الورع والزهد في الدنيا"12.

هـ- مضاعفة الأجر: فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط"13. والمخلط من لا ورع له فاختلط حلاله بحرامه.

آثار عدم الورع

ولقلّة الورع آثارها الوخيمة التي لا ينفع معها شيء ولا يجبرها أيّ عملٍ من الأعمال، فعدم الورع تهديد شيطاني مستمرّ، فمثل الذي يسير بلا ورع كمثل الذي يسير تحت المطر وهو يتمنى أن لا يتبلّل بالماء، ونقتصر هنا على بعض الروايات التيأشارت إلى ويلات فقدان النفس للورع:

أ- عدم قبول الأعمال: فالأعمال بين قبولها وردّها ببركة الورع وعدمه، فكما أنّ الورع يُسهم في قبول الأعمال فإنّ عدمه يُسهم في ردّ الأعمال وحبطها، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لو صلّيتم حتى تكونوا كالأوتاد، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا لم يقبل الله منكمإلا بورع"14.

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ليجيئنّ أقوام يوم القيامة لهم حسنات كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار، قيل: يا رسول الله: أمصلّون؟ قال: كانوا يصلون ويصومون ويأخذون من الليل لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا إليه"15.

ب- فساد الدين: لأنّ جمال صورة المتدين في ورعه واجتنابه المعاصي قبل أن يكون في قيامه بواجباته والفرائض، وعليه فمن لا ورع له فإنه يفسد دينه ويقدمه للآخرين بصورة مشوّهة،فعن الإمام علي عليه السلام: "أفسد دينه من تعرى عن الورع"16.

ج- إعراض الله عنه: أي إنّ الله لا يعبأ بعمله ولا ينظر إليه وهو الخسران المبين، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يكن له ورع يرده عن معصية الله تعالى إذا خلا بها لم يعبأ الله بسائر عمله، فذلك مخافة الله في السرّ والعلانية، والاقتصاد في الفقروالغنى،والعدل عند الرضا والسخط"17.

* كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- الأمالي، ص 155.
2- عيون الحكم والمواعظ، ص 503.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 597.
4- ميزان الحكمة، ج 3، ص 1802.
5- وسائل الشيعة، ج15، ص 258.
6- ميزان الحكمة، ج4، ص 3512.
7- ميزان الحكمة، ج4، ص 3512.
8- الكافي، ج2، ص 80.
9- ميزان الحكمة، ج4، ص 3509.
10- المصدر نفسه.
11- ميزان الحكمة، ج4، ص 3509.
12- ميزان الحكمة، ج4، ص 3512.
13- ميزان الحكمة، ج4، ص 3512.
14- عدة الداعي، ص 140.
15- عدة الداعي، ص 295.
16- ميزان الحكمة، ج4، ص 3510.
17- الكافي، ج3، ص 454.

الاثنين، 8 يونيو 2015

تاريخ الحوزات الشيعية ـ 2

تاريخ الحوزات الشيعية ـ 2

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

في القرن الرابع الهجري ، وفي ظلّ الحكم الشيعي الذي شيّده البويهيّون في العراق وبعض البلاد المجاورة اُقيم أوّل محفل علمي في مدينة كربلاء إلى جوار مريد سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام بفضل العالم الجليل والمحدّث القدير صاحب التصانيف الكثيرة ، وراوي أكثر الاُصول الشيعية الأربعمائة ، الشيخ حُميد بن زياد النينوي ، فكان اوّل نواة لتأسيس وإنشاء مركز علمي وحوزة شيعية علمائية ، ثمّ انتقل إليها الفقيه المكنّى بـ أبي حمزة ، من تلامذة المرحوم شيخ الطائفة ، وشهدت هذه الحوزة ازدهاراً كبيراً ، وحفلت بكبار الفقهاء والمجتهدين في فترات عديدة وعصور مديدة ، وتخرّج منها العديد من الأجيال حتّى أنّها صارت في بعض الفترات مركزاً دون منافس للزعامة الدينية والمرجعيّة الشيعة ، ومن أهمّ البارزين فيها ، أو الراحلين إليها والنازلين بها ، من أعيان الطائفة يمكن تسمية الشيخ ابن فهد الحلّي أعلى الله مقامه ، والفقيه الأخباري الكبير الشيخ يوسف البحراني قدس سرّه ، والعلّامة محمّد باقر الملقّب بـ الوحيد البهبهاني قدّس الله روحه ، الذي أحدث ثورة في اُصول الفقه الجعفري ، ونهض بأعباء الذبّ عن معالم الاُصول الشيعيّة في تصدّيه لهيمنة الفكر الأخباري ، وإلحاق الهزيمة بمشايخهم في عقر دارهم ، فظهر على يديه ، وترعرع في أحضان حلقات درسه المفعمة بالإيمان ، والمشيّدة على اُسس راسخة من العلم والبرهان ، جيل عظيم من أساطين العلم وقادة المذهب ، كالمرحوم السيّد مهدي بحر العلوم ، والمرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، والمولى مهدي النراقي ، وغيرهم من الأعلام أعلى الله مقامهم ، ممّن كانوا مصابيح في سماء العلم والفضيلة ، وأعياناً للمذهب الحقّ يقتدي بهم طلّاب الحقّ والفضيلة ، كما برز فيها أيضاً المرحوم الميرزا محمّد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين وزعيم الطائفة في عصره ، وهكذا برز المرحوم الحاج آقا حسين القمّي قدّس الله روحه ، وغيرهم كثيرون.

كما احتضن الجنوب اللبناني ، وعلى وجه التحديد منطقة جبل عامل ، أحد المراكز الشيعيّة والحوزات العلميّة بعدما هاجر منها العديد من الشباب الغيارى ومحبّي المعارف العلويّة والعلوم الجعفريّة إلى العراق وغيرها من الحوزات العلميّة والمراكز الشيعيّة طلباً للعلم والمعرفة من نبعها الصّافي ثمّ عادوا إلى ذويهم يحملون سلاح العلم والمعرفة يبثّونه هنا وهناك ، ويذودون به عن الشريعة الغرّاء ، بدءاً بالمحقّق العلّامة الكراجكي ، والمحقّق العلّامة الكركي ، الملقّب بالمحقّق الثاني ، والعلّامة الشيخ البهائي ووالده ، والعلّامة المحدّث الشيخ الحرّ العاملي المشهور بصاحب الوسائل ، وهكذا المجلسيّين أعني العلّامة المحدّث الشيخ محمّد تقي المجلسي ، ونجله العلّامة المحدّث الشيخ محمّد باقر المجلسي المعروف بصاحب البحار ، والعلّامة الفقيه الشهيد الثاني ، وانتهاءً بالعلّامة السيّد عبدالحسين شرف الدين ، والسيّد محسن الأمين وأضرابهم كثيرون.

هذه أبرز وأشهر الحوزات العلمية والجامعات الشيعية الإماميّة ، لكنّ انتشار العلم والفضيلة لم يقتصر على هذه المراكز بل انطلق العلماء منها إلى مختلف البلاد وشتّى أرجائها ، والمواقع الشيعيّة ومدنهم المقدّسة حيث أنشأوا فيها الحوزات ، وأقاموا فيها المدارس العلميّة ، وتخرّج منها الكثير من العلماء والأساتذة والفضلاء والخطباء ، كما وقع ذلك في حوزة الكاظميّة في العراق ، وحوزة سامرّاء أيضاً في العراق ، حيث أسّسها وانتقل إليها المرحوم الميرزا حسن الشيرازي الكبير ، وجمع غفير من تلامذته وعلماء عصره ، وحوزة إصفهان ، لا سيّما في العهد الصفوي ، حيث وجد العلماء فيها ضالّتهم ، فوفدوا إليها زرافات زرافات بعد أن دعى حكّام الصفويّين كبار علماء الطائفة وفحول فقهائها للنزوح إلى هذه المدينة ، وإقامة مركز علمي شيعي فيها ، فأقبل إليها المرحوم الشيخ البهائي العاملي ، والمرحوم المحقّق الثاني ـ الكركي العاملي ـ ، والشيخ الحرّ العاملي صاحب وسائل الشيعة ، والمرحوم محمّد تقي المجلسي ، ونجله محمّد باقر المجلسي صاحب البحار ، وأضرابهم من أهل العلم والفضيلة ، وهي مستمرّة إلى يومنا هذا ، وفي حوزة قمّ المقدّسة التي تعدّ من المراكز الشيعية الاُمّ منذ عهد المعصومين عليهم السلام ، حتّى ورد ذكرها في بعض الأخبار والروايات ، وأثنى عليها وعلى أهلها أئمّتنا الأطهار عليهم الصلاة والسلام ، فإنّها كانت حافلة منذ الغَيبة الصغرى بفقهاء الطائفة الحقّة ومحدّثيها وخيارها ، وكان الأمر فيها على هذه الحال إلى بعد الغَيبة الكبرى بقرن كامل تقريباً ، أي كانت مزدهرة ناشطة طيلة مئة وسبعين عاماً تقريباً ؛ لأنّها كانت في أحلك الظروف وأقساها ، مأمناً للمؤمنين ، وملجئاً آمناً لهم ، يلوذون إليها من جور الجبابرة ، وظلم المعاندين المخالفين ، وسرّ عظمتها المكنون فيها أنّها تحتضن باباً من أبواب الرحمة الإلهيّة ، وشفيعة في الدرجات العليّة ، والمقامات العالية من الجنّة ، وكريمة أهل البيت التي إلى جودها وكرمها يلجأ أهل الحقّ فلا تردّ أحداً من باب جودها ، وإلى كرمها تنتهي المكارم ، ألا وهي سيّدتنا ومولاتنا سَميّة جدّتها ، فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليها وعلى آبائها وأخيها آلاف التحيّة والثناء ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم.

وقد اشتهرت هذه الحوزة العلمية ، وزاد صيتها ، وارتفع رصيدها من جديد ، في عهد مؤسّسها أو مجدّدها المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري ، والمرحوم السيّد آقا حسين البروجردي قدّس الله روحهما ، وهي بعد الثورة الإسلامية المباركة بزعامة الإمام الخميني قدّس الله روحه معقل التشيّع ، وملجأ المؤمنين ، وملاذ المجتهدين ، ومن هذه الحوزة انتشر النور إلى أقصى العالم وأدناه ، ولا تزال منبعاً للفضيلة ، ومصدراً للخيرات والبركات ، يتهافت إليها طلّاب العلم والفضيلة من أقاصي البلاد ، ويعودون بالزاد الذي حملوه عن أهل البيت عليهم السلام على أيدي فحول العلم وأصحاب المعرفة ، ويقطنها أكثر مراجع الطائفة وفقهاء الإماميّة ممّن تلقّوا علومهم في حوزة النجف الأشرف ، أو تلمّذوا على أيدي علمائها ، وهي حوزة مزدهرة بالعلوم والمعارف وكثرة المكتبات ومليئة بالأنشطة الدينيّة والثقافيّة والمدارس ومراكز التحقيق ودور النشر ، وناشطة في مجال التأليف والطباعة والنشر.

كما ينقسم فيها المنهج التعليمي إلى المنهج التقليدي القديم ، والتقليدي المشوب بالتحديث ، والمنهج الحديث الذي يمنح طلّابه شهادات تعادل الشهادات الجامعيّة المعاصرة ، وتتمتّع بإدارتين مستقلّتين ، إدارة خاصّة بالطبعة الايرانيّين ، وإدارة اُخرى خاصّة بالطلبة غير الايرانيّين ، وإن كانت تلتقي في مديرية واحدة مشتركة.

وأخيراً الحوزة العلمية بمدينة مشهد المقدّسة ، وهي أيضاً كانت منذ القِدم ولا تزال حوزة ناجحة ، ناشطة ، مزدهرة بالعلماء والمحقّقين وطلبة العلوم الدينية ، كما لا تخلو مدينة شيعيّة أو بلدة يقطنها عالم شيعيّ أو بعض علماء الطائفة إلّا وتجد فيها مدرسة علميّة أو حوزة مصغّرة ينتفع بها طلاّب العلم وعشّاق الفضيلة ، كما هو الحال في معظم المدن الايرانيّة ، وبعض المناطق اللبنانيّة والبحرينيّة والحجازيّة والسُّوريّة ، وعلى وجه التحديد في بلدة الزينبيّة ، حيث مرقد العقيلة الهاشميّة سيّدتنا زينب الكبرى عليها الصّلاة والسّلام ، وهي تزدهر بالنشاطات العلميّة وحلقات الدروس في المدارس والمراكز العلميّة ، ومن قبل في حلب وغيرها ، وأشهر من برز فيها المرحوم السيّد ابن زهرة ، والشهيد الأوّل قدس سرّهما ، وهكذا.

كما ظهرت بعض المراكز العلميّة الشيعيّة في فترات متقطّعة قصيرة في بعض البلاد والمدن الإسلاميّة ، ثمّ اختفت واُغلقت واندرست آثارها ، كما هو الحال في نيسابور وقزوين وهمدان والأهواز وغيرها.

والحمد لله ربّ العالمين



مقتبس من كتاب كيف نفهم الرسالة العمليّة الجزء 2

تاريخ الحوزات الشيعية ـ ١

تاريخ الحوزات الشيعية ـ ١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بدأت حوزاتنا العلميّة ودروس الإجتهاد بشكل منظّم في العهد العبّاسي ، منذ أن وجدت لها نافذة على الحرية وموطئ قدم في مدينة بغداد عاصمة العبّاسيّين حينذاك ، بعد ما اطمئنّوا من وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام الذي كانوا قد شدّدوا عليه الرقابة ، وضيّقوا عليه الخناق ، حتّى يقضوا على المهدي المنتظر عليه السلام المرتقب أن يولد من صلب أبي محمّد العسكري عليه السلام ، لكن توفّي أبو محمّد عليه السلام ولم يُخلّف في نظرهم ولداً ، ولا ترك وريثاً ذكراً ، فاطمئنّوا أن لا أساس لوجود المهدي المنتظر عجّل الله فرجه ـ على حدّ زعمهم ـ ، وكيف كان فقد تنفّس المذهب وأهله لا سيّما علماؤه الصعداء ، واستنشقوا الهواء العذب إلى حين ، بعد قرون من الظلم والاضطهاد ، والعمل في الخفاء خوفاً من الملاحقة والسجن والقتل والتشريد.

وكان ذلك في عصر الشيخ المفيد أعلى الله مقامه الشريف ، حيث استقلّ كثير من بلاد المسلمين عن الدولة الإسلامية الكبرى والخلافة الاُمّ المتمثّلة آنذاك في الحكم العبّاسي ، وظهرت الدويلات والإمارات الإسلامية التي حكمها الاُمراء وملوك الطّوائف بعيداً عن السّلطة المركزية يومئذٍ ، فانقسمت الدّولة الإسلاميّة إلى مجموعة بلاد إسلاميّة ، ومن هنا قد تجسّدت بعض آمال الشيعة تحقّقت بعض أمانيهم حيث انعقدت نطفة أوّل دولة شيعيّة وانطلقت للعيان فكرة إنشاء أوّل مدينة إسلاميّة على نهج أهل البيت عليهم السلام بعد عصر المعصومين عليهم السلام ، وفي زمن الغيبة الكبرى متجسّدة في الدولة البويهيّة التي أنشأها الأمير عضد الدّولة البويهي من ديالمة الفرس ؛ إذ كان له رحمه الله قصب السّبق في نصرة التّشيُّع ، واليد الطولى في نشر المذهب ، وبسط معالمه ، وترسيخ دعائمه ، وتثبيت أركانه ؛ وذلك بفضل استعانته بشيخ مشائخ الطائفة وزعيمها على الإطلاق ، أعني مولانا الشيخ المفيد أعلى الله مقامه الشريف ، وتلبية رغباته جميعاً ، وتحقيق أوامره بعد أن أكرمه أشدّ تكريم ، وتمثّل لأوامره بإنشاء أوّل حوزة شيعيّة وأفضل مدرسة علميّة إماميّة في بغداد عاصمة البويهيّن بعد طول غيبة للحريّات وطول هجران لهذا المذهب من قِبل الحكّام والخلفاء بالحرب الإعلاميّة والتصفيات الجسديّة التي مارسوها على المذهب الحقّ وأهله وكافّة المنتسبين إليه ، فالتحق بها المتعطّشون إلى العلم والمعرفة والفضيلة وتخرّج منها جمع غفير من علماء الطّائفة وأعلام المذهب كالعَلَمين السّيّدين المرتضى والرّضيّ وشيخ الطّائفة الطّوسيّ أعلى الله تعالى مقاماتهم ، الذي انتقل فيما بعد إلى نجف الأشرف ووضع الحجر الأساس واللبنة الاُولى لتأسيس الحوزة العلميّة في مدينة النجف الأشرف بعد أن نجحت مؤامرات الأعداء في إسقاط الدولة البويهيّة والقضاء عليها وصار الشيخ مستهدفاً من قِبل الغزاة ، ولهذا كانت بغداد معقلاً لأوّل جامعة دينية في عصر غيبة المعصوم عليه السلام ، كما كانت في تلك الحقبة الزمنية مركزاً للعلوم والفنون المختلفة لكافّة المذاهب والتوجّهات الإسلامية ، فوجد الفكر الإسلامي فيها مجالاً خصباً للنمو وتبادل الآراء والأنظار ، ومقارعة الحجج والبراهين ، والرقيّ والتكامل والانتشار ، وإن لم يخلُ ذلك من جوانب سلبيّة أدّت إلى نشر بعض الأفكار الباطلة والمذاهب الضالّة.

وبعد أن ضاقت الخلافة العبّاسية ذرعاً ، لا سيّما بفعل الدسائس والفتن التي بثّها بعض علماء المذاهب المناوئة للمذهب الجعفري ، مارس الخليفة وأزلامه ظغوطاً شديدة على علماء المذهب وأجبروهم على الرحيل إلى مدينتي الريّ وقم الفارسيّتين منذ الأعوام الاُولى من الغَيبة الكبرى بحثاً عن الأجواء الآمنة والظروف الملائمة ، وإن كانت هاتان المدينتان مقرّاً لجمع غفير من الشيعة منذ أمدٍ طويل ، وكان قد برز فيهما بعض أعلام الطائفة من الفقهاء والمحدّثين منذ الغَيبة الصغرى كالمرحوم الشيخ الكليني أعلى الله مقامه الشريف مصنّف أبرز كتب الحديث ، أعني الكافي ، وهو أحد أشهر الكتب الأربعة في المذهب الإمامي الاثني عشري ، وهكذا الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه الشريف ، مصنّف الكتب العديدة ، لا سيّما كتاب فقيه من لا يحضره الفقيه ، وهو من الكتب الأربعة أيضاً ، وهكذا ابن بابويه القمّي والد الشيخ الصدوق ، وكذلك أخوه ، حيث سُمّي الشيخ الصدوق وأخوه بالصدوقين ، وكلّهم من أجلّاء الأصحاب وأعلام الطائفة ، لكنّ جميع هؤلاء الأعلام تلقّوا علومهم في بعض مدن العراق لا سيّما العاصمة بغداد.

إلّا أنّ هذه النقلة لم تدم طويلاً ، وعادت الدراسة الدينية والنشاطات العلمية الشيعية إلى بغداد في التفرة الأخيرة من الحكم العبّاسي بفضل الجهود التي بذلها شيخ الطائفة أعلى الله مقامه الشريف ، والظروف التي أحدقت بالنظام العبّاسي فزلزلت حكمهم ، وقلّصت من سلطتهم ، وأصحت بغداد ، وبالتحديد في جانب الكرخ من هذه المدينة ، تعجّ بطلبة العلوم الدينية وعشّاق المعارف الإلٰهيّة الصادرة من النبع الصافي والفكر الأصيل لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم أفضل صلوات المصلّين ، وكان الشيخ الطوسي ـ قدّست نفسه الزكيّة ـ محلّ احترام وتقدير لدى كافّة علماء المسلمين وإن كانت عظمة شأنه وجلالة قدره لم تشفع له عند المبغضين وناصبي العداء لأهل البيت عليهم السلام ولشيعتهم ، فلاقى منهم ما لاقى أهل البيت عليهم السلام من أسلافهم.

ومع الغزو البربري التركي السلجوقي على العراق والبلاد الإسلامية جمعاء ، لا سيّما عزوهم لبغداد العاصمة بسبب الصراعات الداخليّة والخلافات الشديدة التي عاشتها الحكومة المركزية ، والانشقاق والتمزّق وضعف الإرادة لدى مركز الخلافة العبّاسية ، واشتغال الخليفة بالاُمور الهامشية ، والانغماس في الملذّات والشهوات ، واتّساع الهوّة بينه وبين الرعية بتسليط الأتراك على رقاب المسلمين ، لهذه الأسباب وغيرها ممّا لا مجال إلى سردها في هذه الوجيزة رحل العلم وأهله من بغداد ، وشدّت الجامعة العلمية الشيعية رحالها إلى مدينة الحلّة الشهيرة في العراق ، فحطّت وأناخت برحلها هناك ، وقامت المعاهد والمدارس والمراكز العلميّة الإماميّة على قدم وساق مزدهرة بحلقات الدروس ، مكتظّة مزدحمة بأهل العلم وطلّابه ، وتطوّرت دراسة الفقه والاُصول ومباني الاجتهاد في بغداد ثمّ الحلّة تطوّراً كبيراً ، وظهرت منهجيّة في غاية الدقّة والاتقان ، سيّما بعد أن ظهر فطاحل الفقه والاُصول وأساطينهما ، كالمحقّق الحلّي صاحب الشرائع ، والعلّامة الحلّي صاحب المصنّفات العظيمة ، وابنه فخر المحقّقين صاحب المعالم ، والشهيد الأوّل صاحب اللمعة الدمشقية ، وابن ورّام صاحب مجموعة ورّام ، والسيّد ابن طاووس ، وأمثالهم من الأعاظم والفقهاء ، واستمرّت الحركة العلمية في الحلّة حتّى مع تأسيس حوزة النجف ، وظلّت ناشطة لمدّة مديدة رغم وجود الحوزة العلمية التي أنشأها شيخ الطائفة الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه الشريف.

وأمّا النجف الأشرف فمنذ أن حلّ بها شيخ الطائفة لمع نجمها في سماء العلم والفضيلة ، وصارت مأوى العلم والعلماء وملجأ طلّاب العلم والفضيلة يشدّون إليها الرحال ، ويعلّقون عليها الآمال ، فاستقرّت الزعامة الدينية والقيادة العلميّة والمرجعيّة الفقهيّة في هذه المدينة المقدّسة طيلة القرون والأعصار المتمادية ، فكانت مصدر الخيرات ومنبع البركات لمذهب أهل البيت عليهم السلام منذ نشأتها إلى يومنا هذا ، وكيف لا وفيها ضريح مدينة علم الرسول صلّى الله عليه وآله عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ، فقد تخرّج منها أقطاب الإماميّة وأعلامها ، وأساطين الفقه وأعاظمه ، وفحول الأدب والشعراء ، ونوابغ المتكلّمين ، وأعاظم الحكماء والفلاسفة ، وأعمدة المفسّرين ، بالإضافة إلى فطاحل في علم الرياضيات والحساب والهندسة والجبر والطبّ والفلك والعلوم الغربية ، كالجفر وعلم حروف الجمل ، ناهيك عن أصحاب القلم والمفكّرين الإسلاميّين والخطباء المفوّهين ، فضلاً عن الزعماء الدينيّين والفقهاء المجاهدين الذين بفضل جهودهم وجهادهم وحسن تقديرهم وحنكتهم السياسية وفتاواهم الصارمة وشجاعتهم الحيدريّة وبطولاتهم في ميادين التصدّي والدفاع والجهاد ظلّت راية الحقّ ومعالمه خفّاقة ترفرف تحت ظلّ العناية العلويّة ورعاية بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه رغم اُنوف المعاندين والمكابرين.

والحمد لله ربّ العالمين



مقتبس من كتاب كيف نفهم الرسالة العمليّة الجزء الثاني

الحياة في البرزخ :

الحياة في البرزخ :

سمعت أنّ الإنسان يذهب بعد الموت إلى البرزخ ، فكيف هي الحياة في البرزخ ؟ هل هي شبه الجنّة أو ماذا ؟ الرجاء أفادتني وشكراً.

ج : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « من مات فقد قامت قيامته » (1) ، فالبرزخ هي حياة ونشأة بين الدنيا والآخرة ، والمقصود من الحديث « قامت قيامته » هي القيامة الصغرى ، أو فقل أوّل درجات القيامة ، والقيامة الكبرى هي يوم الحشر الأكبر.

والآيات والروايات تثبت الحياة في عالم البرزخ ، وتثبت فيه النعيم والعذاب ، فالقبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران.

قال الشيخ الصدوق : « اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حقّ لابدّ منها ، فمن أجاب بالصواب فاز بروح وريحان في قبره ، وبجنّة نعيم في الآخرة ، ومن لم يأت بالصواب فله نزل من حميم في قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة » (2).

قال الله تعالى عن فرعون وأتباعه : ( النَّارُ‌ يُعْرَ‌ضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْ‌عَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) (3).

وأجاب الإمام الصادق عليه السلام عندما سُئِلَ عن أرواح المؤمنين : « أرواح المؤمنين في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون : ربّنا أقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا ».

وسُئل عليه السلام عن أرواح المشركين فأجاب : « في حجرات في النار يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويتزاورون فيها ويقولون : ربّنا لا تُقم لنا الساعة ، لتنجز لنا ما وعدتنا » (4).

وهذه الرواية تدلّ بتمامها على وجود البرزخ بَعد الموت مباشرة ، ونعيم المؤمنين وعذاب الكافرين فيه مستمر حتّى تقوم الساعة.

فالبرزخ عالم حائل وحاجز بين الدنيا والآخرة ، وهو أوّل محطّات الرحلة إلى الآخرة ، وهو المنزل الأوّل للإنسان بعد مفارقة الدنيا بالموت ، كما قال تعالى : ( وَمِن وَرَ‌ائِهِم بَرْ‌زَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (5).


الهوامش

1. بحار الأنوار ٥٨ / ٧.
2. الاعتقادات : ٥٨.
3. غافر : ٤٦.
4. المحاسن ١ / ١٧٨.
5. المؤمنون : ١٠٠.


مقتبس من كتاب موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء الخامس

الجمعة، 5 يونيو 2015

التفسير والتأويل

التفسير والتأويل


التفسير
أ- لغة: التفسير من فَسَرَ، بمعنى أبان وكشف.
ويقال "فسّر" للدلالة على التكثير، تنزيلاً لما يعانيه المفسّر من كدّ الفكر لتحصيل المعاني الدقيقة.
ب- اصطلاحاً: هو: إزاحة الإبهام عن اللفظ القرآني المشكل، أي المشكل في إفادة المعنى المقصود، أو الكشف عن الإبهام في الجُمل والكلمات القرآنية، وتوضيح مقاصدها وأهدافها.

الحاجة إلى التفسير
إذا كان القرآن الكريم قد أنزله الله نوراً وهدىً وتبياناً لكلّ شيء ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينً﴾1 ،﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾2 ،﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ﴾3، وإذا كان قد جاء ليكون بنفسه أحسن تفسيراً ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرً﴾4.

فما هي الحاجة إلى علم التفسير؟
يمكن الإجابة عن هذا السؤال بذكر الأسباب التالية:
1- إنّ القرآن الكريم جاء تشريعاً للأصول والمباني، وأَجْمَلَ في البيان إيكالاً إلى تبيين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تفاصيل ما نُزّل إليهم.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزلت عليه الصلاة ولم يُسمَّ لهم ثلاثاً، ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الّذي فسّر لهم ذلك"5.
2- احتواء القرآن على معانٍ دقيقة ومفاهيم رقيقة، مثل أسرار الخليقة والوجود وصفاته تعالى، وهي فوق مستوى البشرية آنذاك، ليقوم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتبيينها وشرح تفاصيلها.
3- اشتمال القرآن على بيان حوادث غابرة وأمم خالية، جاء ذكرها لأجل العظة والاعتبار إلى جنب عادات جاهلية كانت معاصرة، عارضها وشدّد النكير عليها، مثل نهيه عن دخول البيوت من ظهورها6 ، ومسألة النسيء7... فقطعها من جذورها. وكل هذه الأمور جاءت مجملة بحاجة إلى شرح وبيان لا تتمّ إلّا من خلال التفسير بالمأثور.
4- جاء في القرآن الكريم كلمات عربية غريبة صعبةالفهم على عامة الناس وهي على أفصح وأبلغ وجه، فكانت بحاجة إلى شرح وبيان وتفسير.
ولذا قال الراغب في المفردات: فالتفسير إمّا أن يستعمل في غريب الألفاظ نحو: "البحيرة" و"السائبة" و"الوصيلة" أو في وجيز كلام يبيّن ويشرح، لقوله: ﴿مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾8 أو في كلام مضمّن بقصّة لا يمكن تصوّره إلّا بمعرفتها، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر﴾9 وقوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَ﴾10.

التأويل
حظي معنى التأويل باهتمام المحقّقين والمفسّرين منذ عهد بعيد، وقيل فيه كلام كثير. وجاءت لفظة التأويل سبع عشرة مرّة في القرآن، إحداها عند تقسيم آيات القرآن إلى مُحْكم ومتشَابَه11, أي في الآية السابعة من سورة آل عمران، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ ففي هذه الآية يُبيّن الله تعالى أنّ من في قلوبهم زيغ يتّبعون الآيات المتشابهة طلباً للفتنة ورغبة في تأويل المتشابه.

وهناك موضوعات مهمّة في هذا البحث لا بدّ من التعرّض لها، وهي:
أ- معنى التأويل:
في اللغة التأويل: من الأَوْل، وهو الرجوع إلى حيث المبد, فتأويل الشيء إرجاعه إلى أصله وحقيقته، فكان تأويل المتشابه توجيه ظاهره إلى حيث مستقرّ واقعه الأصيل.
والتشابه قد يكون في كلام إذا أوجب ظاهر تعبيره شبهةً في نفس السامع، أو كان مثاراً للشبهة. 
وقد يكون التشابه في عمل كان ظاهره مريباً، كما في أعمال قام بها صاحب النبيّ موسى عليه السلام ، بحيث لم يستطع النبيّ موسى عليه السلام الصبر عليها دون استجوابه، والسؤال عن تصرّفاته تلك المريبة!

ب- استعمالات التأويل في القرآن الكريم 
جاء استعمال لفظ "التأويل" في القرآن على ثلاثة وجوه:
1ـ تأويل المتشابه : بمعنى توجيهه حيث يصحّ ويقبله العقل والنقل، إمّا في متشابه القول، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾12 أو في متشابه الفعل، كما في قوله: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرً﴾13، ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرً﴾14.
2ـ تعبير الرؤيا: وقد جاء متكرّراً في سورة يوسف في سبعة مواضع15.
قال تعالى: ﴿يُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾16.
3ـ مآل الأمر وعاقبته: وما ينتهي إليه الأمر في نهاية المطاف، قال تعالى: 
﴿وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل﴾17، أي أَعوَد نفعاً وأحسن عاقبة.
4- المراد الحقيقي والواقعي من الآية: وهو ما يعبّر عنه ببطن القرآن، ولا يعتمد التأويل على ظاهر اللفظ ولا على القرائن اللفظية، ومن هنا كان خطاب النبي يوسف عليه السلام:﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّ﴾18 فإن تفسير الرؤيا أنّه رأى أحد عشر كوكباً ورأى الشمس والقمر كل ذلك رآه ساجداً له، ولكن بعد مرور الزمن والابتلاءات تمّ تأويل هذه الرؤيا بما لا يظهر من الألفاظ المستعملة في آية الرؤيا، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن"، سئل الإمام الباقر عليه السلام عن هذا الحديث فقال: "ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما تجري الشمس والقمر"19.

الفرق بين التفسير والتأويل
كان التأويل في استعمال السلف مترادفاً مع التفسير، وقد دأب عليه أبو جعفر الطبري في "جامع البيان". لكنّه في مصطلح المتأخّرين جاء متغايراً مع التفسير، فالتفسير هو: رفع الإبهام عن اللفظ المشكل، فمورده: إبهام المعنى بسبب تعقيد حاصل في اللفظ.
وأمّا التأويل: فهو دفع الشبهة عن المتشابه من الأقوال والأفعال، فمورده حصول شبهة في قول أو عمل، أوجبت خفاء الحقيقة (الهدف الأقصى أو المعنى المراد) فالتأويل إزاحة هذا الخفاء.
فالتأويل هو: بيان المراد الحقيقي للآية التي لا تفهم من خلال الألفاظ، والتي تكون بعيدة عن القرائن اللفظية الظاهرة، والتفسير يكون برفع الخفاء 
بالاعتماد على الظاهر من اللفظ والقرائن، بينما التأويل يكون بيان المعنى الحقيقي والواقعي من دون ذلك الاعتماد.

التأويل عند الطباطبائي
قال العلّامة الطباطبائي: "فسّر قوم من المفسّرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام... وقالت طائفة أخرى أنّ المراد بالتأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ... وهذا المعنى هو الشائع عند المتأخّرين كما أنّ المعنى الأوّل هو الّذي كان شائعاً بين قدماء المفسّرين..."20 واستنتج العلّامة بعد ذكره وتفنيده لكلِّ الآراء، ما يلي:
"إنّ الحقّ في تفسير التأويل أنّه الحقيقة الواقعية الّتي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هي من الأمور العينيّة المتعالية من أن يُحيط بها شبكات الألفاظ، وإنّما قيّدها الله تعالى بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تُضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع...، ولم يستعمل القرآن لفظ التأويل... إلّا في المعنى الّذي ذكرناه"21.
ومن الشواهد على هذا الاستخدام لكلمة التأويل ما ورد في قصّتي "موسى والخضر" و"يوسف" وما شابه ذلك.

ففي قصّة النبيّ يوسف: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾22.
وبعد مضي سنوات طويلة وحوادث كثيرة، جاء تأويل هذه الرؤيا في السورة بالشكل التالي:
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّ﴾23.
فما رآه النبيّ يوسف في الرؤيا يعود إلى سجود أبيه وأمّه وإخوته، وهذا التأويل والرجوع من قبيل رجوع المثال إلى الممثّل والواقع الخارجي.

هل يعلم التأويل غير اللّه؟
يثار السؤال المذكور في ضوء ما ورد في الآية السابعة من سورة آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب﴾24. فقد وقع خلاف مهمّ حتّى في قراءة الآية وتلاوتها، وهو حسب قول البعض أهمّ اختلاف في القراءات وأعمقه معنى في القرآن كلّه. ويدور الاختلاف حول الوقف أو عدمه بعد كلمة "الله" في الآية الشريفة: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾.
فالقول بالوقف يعني أنّ علم التأويل عند الله وحده، وأما القول بالعطف فمعناه أنّ علم التأويل ليس لله وحده، وإنّما الراسخون في العلم لديهم علم بالتأويل أيضاً.
يعتقد العلّامة الطباطبائي أنّ العلم بالتأويل لا يختصّ بالله تعالى وذلك استناداً إلى أدلّة من الآيات والروايات.

فمن الآيات القرآنيّة:
﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾25 ولا شبهة في ظهور الآية في أنّ المطّهرين من عباد الله يمسّون القرآن الكريم، وهم آل البيت عليهم السلام: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾26.

ومن الروايات:
عن بريد بن معاوية قال: "قلت للباقر عليه السلام: قول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ قال: يعني تأويل القرآن كلّه إلّا الله والراسخون في العلم، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلاً عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، فقال الذين لا يعلمون: ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم الله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَ﴾.27
وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم﴾ نحن نعلمه"28.
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "نحن الراسخون في العلم، فنحن نعلم تأويله"29.

الخلاصة 
التأويل في اللغة: الأوْل، وهو الرجوع إلى حيث المبدأ. والتشابه قد يكون في الكلام وقد يكون في العمل. 
ـ التأويل في القرآن الكريم على ثلاثة وجوه: تأويل المتشابه، تعبير الرؤيا، مآل الأمر وعاقبته، والمعنى الرابع المفهوم العام المأخوذ من الآية الواردة بشأن خاص.
ـ الفرق بين التفسير والتأويل: كان التأويل في استعمال السلف مترادفاً مع التفسير، ولكنّه عند المتأخّرين يعني المعنى المخالِف لظاهر اللفظ.
ـ عند العلّامة الطباطبائي التأويل ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور المتعالية من أن يحيط بها الألفاظ، فهي كالأمثال تُضرب ليقرب بها المقاصد.
ـ اختلف المفسِّرون في أنّه هل يعلم التأويل غير الله تعالى، من حيث اختلافهم في علامة الوقف على كلمة الله في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾، ولكن العلّامة الطباطبائي استدلّ من غير هذه الآية بغضّ النظر عن الخلاف في علامة الوقف بآيات أخرى وروايات، على إمكانية أن يعلم غير الله التأويل، بالإضافة إلى أنّ هناك دليلاً عقليّاً.

* دراسات في مناهج التفسير, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- سورة النساء، الآية: 174.
2- سورة آل عمران، الآية: 138.
3- سورة الجاثية، الآية: 20.
4- سورة الفرقان، الآية: 33.
5- الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، تحقيق: علي أكبر الغفّاري: ج 1، ص 286، دار الكتب الإسلامية، 1986م.
6- سورة البقرة، الآية: 189.
7- سورة التوبة، الآية: 37.
8- سورة المائدة، الآية: 103، والبحيرة هي الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، شقّوا أذُنها وتركوها، فلا تُركب ولا يُحمل عليها، والسائبة: إذا ولدت خمسة أبطن، تسيّب في المرعى، فلا تردّ عن حوض ولا كلاء، والوصيلة: إذا ولدت الشاة توأمين ذكراً وأنثى، فلا يُذبح الذكر، ويقال وصلت أخاها فيتركونها لأجلها.
9- سورة التوبة، الآية: 37.
10- سورة البقرة، الآية: 189.
11- المحكم هو ما لا يحتمل إلّا معنى واحد، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً متعدّدة، وعرّف الشيخ الطوسي المحكم بأنه: ما أنبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار أمر ينضمّ إليه.. والمتشابه: ما كان المراد به لا يُعرف بظاهره بل يحتاج إلى دليل، وذلك ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً فإنّه من باب المتشابه، وإنّما سمّي متشابهاً لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد. التبيان، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 9.
12- سورة آل عمران، الآية: 7.
13- سورة الكهف، الآية: 78.
14- سورة الكهف، الآية: 82.
15- الآيات: 6ـ 21ـ 36ـ 44ـ 45ـ 100ـ 101.
16- سورة يوسف, الآية: 6.
17- سورة الإسراء، الآية: 35.
18- سورة يوسف، الآية: 100.
19- بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار، ص 195، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1381هـ.
20- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 44 و49، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، ط 2، 1391هـ.
21- م.ن، ج 3، ص 49.
22- سورة يوسف، الآية: 4.
23- سورة يوسف، الآية: 100.
24- سورة آل عمران، الآية: 7.
25- سورة الواقعة، الآيات: 77ـ 79.
26- سورة الأحزاب، الآية: 33. انظر: تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 55.
27- تفسير العياشي، مصدر سابق، ج1، ص293، الحديث رقم: 646.
28- م.ن، الحديث: 647.
29- م.ن، الحديث 648.

النصر والمدد الغيبيّ

النصر والمدد الغيبيّ

موعظة قرآنية
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾1.

مقدّمة
إنّ انتصار أهل الحقّ في مواجهتهم للباطل مرهون بالإذن والتسديد والمدد الربّاني. والمدد الإلهيّ عبارة عن مساعدة وواسطة خفيّ في النصر، والتي تعتبر من العوامل الإلهية والغيبية المهمّة في تحقيق النصر للمسلمين. فالنصر الحقيقيّ، أسبابه وحصوله إنّما هو إلهيّ المنشأ أولاً وآخراً. لذلك يجب على المجاهدين أن لا يتوجّهوا بقلوبهم وتعلّقاتهم إلى غير الله تعالى. وهذه النكتة أكّد عليها القرآن الكريم في موارد مختلفة، وكان هذا التأكيد لأجل أن لا ينسى الناس أصل التوحيد، وأن يبقى راسخاً في أذهانهم مبدأ: (لا مؤثّر في الوجود إلّا الله).

ففي الحرب لا مؤثّر حقيقيّ غير الذات الإلهية المقدسة، أما الملائكة وغيرها من التسديدات الإلهية فلا يعملون إلا بأمر من الله عزّ وجلّ، ولا استقلال لهم في شيء لا في نصر المسلمين، ولا في أيّ أمر آخر، إذ إنّ كلّ الأمور حقيقة هي بيد الله تعالى، وتسير بأمره تبارك وتعالى.


شروط المدد الإلهيّ وأنواعه

وهذه الإمدادات الغيبية والتسديدات الإلهية للمجاهدين أثناء جهادهم ضدّ الأعداء مشروطة بشرطين كليين:

أوّلاً: العمل على الاستفادة من كل قدراتهم المتاحة بين أيديهم في ساحة العمل.

ثانياً: انتظار المدد الغيبيّ الإلهيّ والمساعدة الربّانية، في حال لم تفِ تلك القدرات والطاقات الظاهرية في رفع حاجة المسلمين ومشكلتهم، لأنه في تلك الحالة سوف يضع الله تعالى تلك الطرق والأساليب الغيبية في خدمة المجاهدين، وذلك حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية والحاجة الفعلية.

وهذه النتيجة قد أيّدها القرآن الكريم حيث تحدّث بعض الآيات الشريفة، عن أنّ الإمدادات الغيبية الإلهية ليست مطلقةً بل لها شروطُها وظروفها، ويمكن أن نصنّف المدد الإلهيّ إلى نوعين، معنويّ وماديّ. وفي هذا المقام يُطرح سؤال عن ماهية هذه الإمدادات والتسديدات الإلهية، وطرق تحققها. وللإجابة عن هذا السؤال، سنقوم بالتحقيق في الآيات الواردة في القرآن الكريم حول هذا الموضوع. يمكننا تقسيم الإمدادات الغيبية والتسديدات الإلهية إلى عدّة أنواع:


السكينة

السكينة من صفات النفس الإنسانيّة التي وردت الإشارة إليها مرّاتٍ عدّة في القرآن الكريم، في بعض الأحيان بطريقةٍ مباشرة، وفي بعض الأحيان من خلال الإشارة إلى النعاس الذي يصيب المؤمنين في ساحة الحرب ويجعلهم كأنّهم في فراشهم وتحت سقوف بيوتهم. وتكتمل الصورة عندما تقترن السكينة في قلوب المؤمنين بالخوف الذي يقذفه الله في قلوب جنود العدوّ.

- قال الله تعالى: ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾2. تحدّثنا هاتان الآيتان عن النصر الذي منّ الله به على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ تذكر أمرًا يظهر أنّه بمثابة السبب الذي يؤدّي إلى مضاعفة الإيمان وزيادته وهو السكينة التي نزلت على قلوب المؤمنين فزادت إيمانهم، وسمحت لهم ولقائدهم بالنصر وليس أي نصر بل ذلك النصر الذي يصفه الله بأنّه عزيز، أبهر الأعداء وجعلهم ييأسون من التفكير في طلب ثاراتهم القديمة التي هي الذنوب التي تقدّمت وتأخّرت كما يرى عددٌ من المفسّرين.

قال الله تعالى: ﴿﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾3. محور هذه الآية الحديث عن المسلمين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية قبل فتح مكّة بقليل من الزمان، ودلالة الآية واضحة على أنّ هذه السكينة التي غمرت قلوب المسلمين المبايعين هي التي ولّدت النصر وجعلته ثوابًا قريبًا لأهل السكينة والاطمئنان إلى خيارات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


قذف الرعب في قلوب الكفّار والأعداء

واحدة من طرق الإمداد الباطنيّ والروحيّ التي ينصر الله تعالى بها أهل الحقّ ويهزم بها أهل الباطل هي: إلقاء الرعب وإيجاد الخوف في قلوب الكفّار والمشركين، بمعنى أن يُسيطر الرعب والخوف على نفوس الكفّار في ميدان المعركة، ما يصيبهم بالاضطراب والقلق بحيث يفقدون القدرة على البقاء في الميدان. وهذا الانهزام النفسيّ يؤدّي إلى عدم الثبات في مواجهة المسلمين، فيُفضّلون الفرار والانهزام على الالتحام مع أهل الحقّ.

لقد ذُكر هذا العامل المهمّ والمدد الروحيّ في أربعة موارد من القرآن الكريم بشكلٍ مؤكّدٍ وقاطع.

ففي موردين يَعِد الله المسلمين بأنّه سوف يُرعِب قلوب أعدائهم أثناء المعركة لسلب الشجاعة والجرأة منهم على قتال وحرب المسلمين.

وفي موردين آخرين تتحدَّث الآيات الشّريفة عن إرعاب وتخويفٍ مُسبَق للأعداء ليكون ذلك عاملاً مساعداً لغلبة المسلمين. ونكتفي هنا بالمرور على الآيات القرآنية مروراً سريعاً:

يقول الله تعالى ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾4.

وفي آية أخرى يُبيّن الله تعالى عامل انتصار المسلمين بهذه الصورة، حيث يقول تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾5.


التصرّف بالنفوس

هناك طريقٌ آخر من طرق الإمداد الغيبيّ الباطنيّ، وهو عبارة عن التصرّف الإلهيّ في نفوس المؤمنين، فيجعل أعداد الكفار في نظرهم قلّة، وقدراتهم ضعيفة حتّى لا يخاف المؤمنون من مظاهر القوّة والقدرة عند العدوّ فيهابوا ويتراجعوا.

ومن جهة أخرى، يتصرف الله في نفوس الكافرين فيجعلهم ينظرون باستخفاف إلى معسكر المسلمين ويعدّون جيش الإسلام قلّة وضعفاء، وهذا الاستخفاف يؤثّر في خطط الأعداء الحربية، من عدم نقل السلاح والتجهيزات الكاملة إلى ساحة المعركة وعدم إحضار كلّ الجيش إلى ميدان الحرب، وهذا ما يُوقعهم في سوء تقديرٍ لعدد الجيش الإسلامي وقدراته الحقيقية ممّا يجرُّهم في النهاية إلى الخسارة والهزيمة.

وحول هذا الموضوع يقول الله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ﴾6.


تثبيت الأقدام

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾7.

هذه الآية الكريمة تحثّ المؤمنين على جهاد أعداء الحقّ، وترغّبهم في ذلك. وليس التأكيد على مسألة "الإيمان" في الآية إلّا إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقيّ هي جهاد أعداء الحقّ والدين. فعلى المؤمنين أن ينصروا دين الله، وهذا تكليف وواجب ملقى على أعتاقهم. ومع أنّ قدرة اللّه سبحانه غير محدودة، ولا قيمة لقدرة المخلوقات حيال قدرته، غير أنّه يعبّر بنصرة اللّه ليوضح أهميّة الجهاد والدفاع عن دين اللّه. وهو تعالى يعدهم في حال أدّوا تكليفهم فإنه سيكون معهم يؤيّدهم ويسدّدهم وينصرهم، بأن يلقي في قلوبهم نور الإيمان، وفي أرواحهم التقوى، وفي إرادتهم القوّة والتصميم أكثر، وفي أفكارهم الهدوء والاطمئنان. ويرسل الملائكة لمدّهم ونصرتهم، ويغيّر مسار الحوادث لصالحهم، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، ويجعل كلماتهم نافذة في القلوب، ويصيّر نشاطاتهم وجهودهم مثمرة وذات فائدة الخ. ولكن من بين كلّ أشكال النصرة يؤكّد تعالى على مسألة تثبيت الأقدام، وذلك لأنّ الثبات أمام العدو يعتبر أهمّ رمز للانتصار، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر. لذا كان دعاء طالوت ومن بقي معه من المؤمنين على قلّتهم عند ملاقاتهم لجيش جالوت القويّ والكبير: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾8. فأيّدهم الله بالنصر المؤزّر على العدوّ لثبات أقدامهم عند المواجهة.


إنزال الملائكة

في معركة الحقّ والباطل يسقط بعض الحدود بين عالم الطبيعة وعالم ما فوقها، وإذا سخّر الإنسان الطبيعيّ نفسه في خدمة الأهداف الإلهيّة العليا، والقيم السامية النبيلة، سخّر الله له مخلوقات ما فوق الطبيعة وجعلها تدافع عنه وتؤيّده. وقد حدّثنا القرآن مرّات عدّة عن تأييد الله المؤمنين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة، ومن ذلك هذه الآيات: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾9.

﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾10.

ويقول عزّ وجلّ في آية أخرى في السياق نفسه: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ﴾11. نعم ربّما يكون مستهجنًا الحديث عن الغيب والغيبيّات في عالم العسكر وفي عصر تحوّلت فيها المادّة إلى إله يعبد من دون الله، هذا ولكنّ الفكر الذي يستند إلى الوحي ويجعل منه الركن الأساس إلى جانب العقل أو قبله أو بعده ولكنّه لا يركن إلى الإيمان دون عقلٍ ولا إلى العقل دون إيمان، لا يمكنه أن يستبعد مثل هذه الأمور لا في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في غير عصره، فالوحي دلّ على مثل هذا التأييد ولم ينفِ حصوله في سائر العصور إذا صدقت النوايا وتشابهت الظروف. والعقل أقصى ما يمكنه فعله هو السكوت وقول لا طاقة لي به، فليس ثمّة دليلٌ عقليٌّ يحكم باستحالة مثل هذا التأييد الغيبيّ، إن لم نقل إنّ العقل قد يحكم بضرورة مثل هذا الأمر في بعض الظروف الخاصّة من باب اللطف الذي هو مفهوم كلاميٌّ تقتضيه صفات الله تعالى وحكمته وعدله.


الريح والمطر

إذا أراد الله أمرًا سخّر له كلّ ما خلق من مظاهر الطبيعة وما وراءها. وممّا سخّره الله تعالى في خدمة معسكر المؤمنين الرياح والمطر. وقد أشرنا من قبل إلى المطر الذي كان له دور في تثبيت إيمان المسلمين في معركة وقيل في دور المطر إنّه كان لرفع وسوسة الشيطان وتشكيك المسلمين في دينهم وأنّهم يصلّون وهم على جنابة والماء تحت يد المشركين. وقيل إنّ مخيّم المسلمين كان في أرض ذات رمل لا تثبت فيها الأقدام فأنزل الله المطر لترطيب هذه الأرض وتثبيت مواقع أقدامهم. وأيًّا يكن فإنّ الآية المشار إليها تدلّ على تسخير الله تعالى المطر وهو مظهر من مظاهر خلق الله في الطبيعة في خدمة الأهداف والغايات الحربيّة للمسلمين.

وأما الريح فهي من جنود الله التي يسخّرها في خدمة كثيرٍ من أغراض، فهي وسيلة العذاب على بعض الأقوام السابقة، وهي من الجنود التي تشارك جنوده المؤمنين في مواجهة أعدائه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾12.

ومن العوامل الطبيعية للمدد الإلهيّ والتي أشير إليها في القرآن الكريم المطر، ففي إحدى الآيات الشريفة تحدث القرآن حول هذا الموضوع قائلاً: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾13.

إنّ هذه الآية تشير إلى أحداث معركة بدر، ففي الليلة التي سبقت المعركة أنزل الله مطر رحمته ما جعل الأرض تحت أقدام جيش الإسلام سهلة رطبة فسهّلت لهم طريقة الحركة والتنقل في الأرض وإجراء المناورات اللازمة في الميدان، إضافة إلى التخلّص من آثار الغبار والتراب التي تعيق الحركة أثناء القتال وتعمي الأعين وتضرّ بالرؤية البصرية.

أما في معسكر الكافرين فقد كان المطر شديداً، ما جعل الأرض تحت أقدامهم موحلة غير مستقرة، فأعاق حركتهم ومناورتهم العسكرية، وكان ذلك عاملاً في هزيمتهم.

إن هذا المطر كان للمسلمين نوع إمداد غيبيّ ورحمة إلهية، ليصبح المجاهدون أكثر فعالية ونشاطاً وأشدّ حماسة وثباتاً، وكان سبب رحمةٍ خاصة لهم من جهة تحصيل الطهارة والنظافة الظاهرية والروحية وتأمين مياه الشرب وغير ذلك من النعم، وكل ذلك بفضل هذا المدد الإلهيّ.


وصية الأمير عليه السلام حول النصر

من حسن الختام نقل كلامِ مَن كلامُه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق أمير المؤمنين عليه السلام، في وصيّة لابنه محمد ابن الحنفيّة عندما أعطاه الراية في إحدى معاركه فأوصاه بمجموعة وصايا جلّها مقتبس من الآيات المشار إليها أعلاه: "تَزُولُ الْجِبالُ وَلا تَزُلْ! عَضَّ عَلَى ناجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُمْجُمَتَكَ، تِدْ فِي الاْرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِك أَقْصَى الْقَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحانَهُ"14.


وقفّة تأمّلية

كما أنّ النصرة الإلهية لكم أنتم الذين تجاهدون وتناضلون لا تختصّ بالآخرة. في هذه الآية... تقول الملائكة: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾15، إذن، ليست المسألة في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً تعمل ملائكة الله وقواه المعنويّة على مدّ يد العون للذين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾16.

ونحن نُشاهد عونهم في الدنيا بأعيننا. ملائكة الله أعانونا نحن أيضاً في ثمانية أعوام من الدفاع المقدّس. وقد شاهدنا هذا العون بأعيننا. قد لا يُصدّق ذلك الإنسان الغارق في المادّيّات، دعه لا يُصدّق. نحن شاهدنا هذا العون. واليوم أيضاً تُساعدنا ملائكة الله، ونحن واقفون وصامدون بفضل العون الإلهيّ. قوّتنا العسكرية لا تقبل المقارنة بأمريكا. وقدراتنا الاقتصادية وإمكاناتنا المالية والإعلامية وامتداد نشاطنا السياسيّ لا يقبل المقارنة بأمريكا. ومع ذلك فنحن أقوى من أمريكا، مع أنّها أكثر مالاً وسلاحاً وأقوى إعلاماً وإمكانيّاتها المالية والسياسية أكثر، لكنّها أضعف ونحن أقوى. والدليل على قوّتنا هو أنّ أمريكا تراجعت خطوة خطوة في كلّ الميادين التي حصلت فيها مواجهة بيننا وبينها. نحن لا نتراجع بل نتقدّم إلى الأمام. هذا هو الدليل والمؤشّر، وهو ببركة الإسلام وبفضل العون الإلهيّ ومساعدة ملائكة الله.


الإمام الخامنئي دام ظله: كلمته في ملتقى غزة/ طهران/ 27/2/2010م

* كتاب النصر الإلهي، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- سورة محمد، الآية 7.
2- سورة الفتح، الآيتان 3 و 4.
3- سورة الفتح، الآية 18.
4- سورة آل عمران، الآية 151.
5- سورة الأنفال، الآية 12.
6- سورة الأنفال، الآيتان 43 و 44.
7- سورة محمد، الآية 7.
8- سورة البقرة، الآية 250.
9- سورة آل عمران، الآية 125.
10- سورة الأنفال، الآية 9.
11- سورة الأنفال، الآية 12.
12- سورة الأحزاب، الآية 9.
13- سورة الأنفال، الآية 11.
14- نهج البلاغة، قسم الخطب، الخطبة 11،
15- سورة فصلت، الآية 31.
16- سورة فصلت، الآية 30.

المعرفة طريق الانقطاع إلى الله

المعرفة طريق الانقطاع إلى الله

مراتب المعرفة

إنّ لمعرفة الله العقلية والقلبية مراتب عديدة، ولكلّ مرتبة شرائط خاصة. فشرائط وموانع أوّل مرتبة للمعرفة العقلية أو القلبية تختلف عن شرائط وموانع المرتبة الأعلى منها، بل هي غير قابلة للقياس بها، بمعنى أنّ موانع وشرائط المرتبة الأعلى للمعرفة هي أكثر وأدق بمراتب من المرتبة الأدون. إنّ أول مرتبة للمعرفة العقلية تبدأ من المعرفة البديهية وتنتهي بالإحاطة بكل براهين وأدلة معرفة الله وبالإجابة عن كلّ إيرادات المنكرين. وأول مرتبة للمعرفة القلبية تبدأ من المعرفة الفطرية القلبية، وتختتم بتجاوز الحجب الظلمانية والنورانية والوصول إلى مرتبة تجلّي الذات.

شرائط المعرفة 

إنّ المعارف العقلية نوعان: المعارف البديهية (البديهيات العقلية) والمعارف النظرية. معرفة الله عن طريق العقل هي بحسب المعنى الأول أي المعرفة العقلية البديهية لا شرط لها إلّا رفع موانعها الخاصة. والموانع الخاصة لهذه المعرفة هي عبارة عن التعصّب، الحزبية، البغض والحقد وكل ما من شأنه أن يبعد العقل عن فطرته وطبيعته. ولو لم تكن هذه الموانع موجودة لتوجّه العقل مع الالتفات إلى نظام الوجود إلى منظمه وخالقه دون أن يجد حاجة للبرهان في هذا المجال، ولا ضرورة لوجود شرط آخر غير عدم وجود الموانع. أما معرفة الله بالمعنى الثاني أي المعرفة العقلية النظرية فلها شرائط أخرى إضافةً إلى رفع الموانع وعلى رأسها التعلّم وطلب المعرفة بالدليل والبرهان العقلي.

أما معرفة الله عن طريق القلب فلها مراتب أيضاً، وأدنى تلك المراتب هو الإحساس الفطري بالحاجة للكمال المطلق. وهذه المعرفة القلبية كالمعرفة العقلية الفطرية لا شرط لها إلا رفع الموانع الخاصة بها. وهذه الموانع هي نفس موانع المعرفة العقلية البديهية التي لولا وجودها لأدرك العقل خالقه وربه بنفسه ولأحس القلب به أيضاً. كما يقول الإمام علي عليه السلام في وصفه لسالك الطريق إلى الله: "قد أحيا عقله وأمات نفسه حتّى دَقَّ جليله ولطف غَليظه وبَرَقَ له لامع كثير البرق فأبان له الطّريق وسلك به السّبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السّلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والرّاحة بما استعمل قلبه وأرضى ربّه"1.

الإيمان ومراتبه

الإيمان بالله يحصل في النفس من خلال التصديق المنطقي والاستدلالي إلى جانب الإدراك والإحساس الفطري القلبي الذي يحصل بإرشاد الأنبياء الإلهيين، وشرط تحقّقه هو عدم وجود الموانع ولو بنحو نسبيّ.

وإذا عمل الإنسان بلوازم الإيمان التي هي تنفيذ القوانين الإلهية، وبذل تمام قدرته بإخلاص في تنفيذ هذه القوانين في حياته الفردية والاجتماعية فسيحصل على مرتبة أعلى إلى أن يصل إلى اليقين. كما يقول الإمام علي عليه السلام: "إنّ الإيمان يبدو لُمظةً في القلب، كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللُمظةُ"2.

ومع بقاء التقوى يزداد نور الإيمان تدريجياً حتى تصل مرآة القلب إلى درجة من الإشراق والنور بحيث تتجلّى فيه ذات الحق المقدّسة، ويرى الإنسان ربه وإلهه ببصر القلب ويصل إلى مرتبة اليقين.

وعلى هذا فيكون حينئذٍ للإيمان ثلاث مراتب محدودة، المرتبة الأولى هي عبارة عن التصديق المنطقي، الثانية مرتبة التقوى، الثالثة مرتبة اليقين.
وقد ذكرت هذه المراتب في رواية عن الإمام الرضا عليه السلام حيث يقول: "الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتَقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التّقوى بدرجة وما قُسِمَ في النّاس شي‏ء أقلّ من اليقين"3.

في مجال بيان مراتب الإيمان من التصديق المنطقي حتى الرؤية القلبية أو من علم اليقين إلى عين اليقين هناك عدة مسائل يجب بحثها ودراستها وهي:

1- إمكان الرؤية القلبية.
2- معنى الرؤية القلبية.
3- بيان السير التكاملي من الإيمان إلى اليقين.

إمكان الرؤية القلبية

ليست رؤية الله عن طريق القلب في الإسلام ممكنة فقط بل إنّ الإمام يصرّح في روايات متعددة بأنه لا يعبد رباً لم يره. جاء في رواية معروفة أنّ شخصاً اسمه ذعلب ذا لسان بليغ في الخطب شجاع القلب سأل أمير المؤمنين عليه السلام فقال: "يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟ قال: ويلك يا ذِعْلِبُ ما كنت أعبد ربّاً لم أره، فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذِعْلِبُ لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان‏"4.

وفي رواية أخرى عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر محمد بن علي الباقرعليه السلام وقد دخل عليه رجل من الخوارج فقال له:
"يا أبا جعفر أيّ شي‏ء تعبد؟ قال: اللَّهَ تعالى، قال رأيته؟ قال: بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان لا يُعرف بالقياس ولا يدرك بالحواسّ ولا يُشَبّه بالناس موصوف بالآيات معروف بالعلامات لا يجور في حكمه ذلك الله لا إله إلا هو قال فخرج الرّجل وهو يقول الله أعلم حيث يجعل رسالته‏"5.

ويقول أبو بصير: سألت الإمام الصادق عليه السلام: "قلت له أخبرني عن الله عزَ وجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾‏ ثمّ سكت ساعة ثم قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدّنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقت هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له جعلت فداك فأُحَدِّث بهذا عنك؟ فقال: لا فإنّك إذا حدّثت به فأَنْكَرهُ مُنْكِرٌ، جَاهِلٌ بِمَعْنَى ما تقوله، ثمّ قَدَّرَ أنّ ذلك تشبيهٌ وكفر، وليست الرّؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عمّا يصفه المُشَبِّهُون والملحدون"6.

وعن أبي الحسن الرّضا عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا أُسْرِيَ بي إلى السّماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قطّ جبرئيل فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحبّ"7.

ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في الدعاء:

"فأسألك باسمك الّذي ظَهرْتَ به لخاصّة أوليائك فوحَدوك وعرفوك فعبدوك بحقيقتك أن تُعرِّفني نفسك لأُقِرَ لك بربوبيّتك على حقيقة الإيمان بك ولا تجعلني يا إلهي ممّن يعبد الاسم دون المعنى والحظني بلحظة من لحظاتك تنوَّر بها قلبي بمعرفتك خاصّة ومعرفة أوليائك إنّك على‏ كلّ شي‏ء قدير"8.

ويقول الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: "أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك"9.

السير التكاملي من الإيمان إلى اليقين

لبيان هذا السير المعنوي يجب أن نسأل من طووا هذا المسير وهم في أوج قمة اليقين، أولئك الذين وصلوا في معرفة حقائق الوجود إلى مرتبة "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"10. أي أن نستمع إلى كلام أهل بيت العصمة والطهارة، وأهل بيت الرسالة صلوات الله عليهم أجمعين، والذي يستفاد من مجموع كلامهم صلوات الله عليهم أجمعين في بيان هذا السير وبحسب ما ألمح إليه بعض الصالحين، أنّ هذا السير التكاملي يبدأ بالذكر ويختتم بالانقطاع. ولتوضيح الأمر نشير إلى النقاط التالية: 

الأولى: ارتباط الإيمان والذكر

الذكر هو عبارة عن العمل بلوازم الإيمان، لأنّ لازم الإيمان والاعتقاد بخالق الكون هو العمل بالقوانين والبرامج التي أوحيت للأنبياء الإلهيين من أجل تكامل الإنسان. فحقيقة ذكر الله ليست إلاّ العمل بالقوانين الإلهية، وذكر الله باللسان هو جزء صغير من الذكر بالمفهوم العام. وبسبب هذا التلازم فسّر الإيمان بالعمل من باب المبالغة في حديث للإمام الصادق عليه السلام يقول فيه: "الإيمان عمل كله، والقول بعضُ ذلك العمل بفرض من الله"11.

وعلى هذا الأساس لا يكون الإيمان قابلاً للبقاء بدون الذكر، وإذا انفصل الذكر عن الإيمان انطفأ هذا المصباح، وانهدم هذا البناء لذلك يقول الإمام علي عليه السلام: "ذكر الله دعامة الإيمان"12، أي أنّ الذكر أمر ضروريّ لبقاء بناء الإيمان، وبدون هذا العماد لا يمكن أن يكون للإيمان وجود خارجي.

وعليه فبعد تكوين جوهرة الإيمان في الروح، يبدأ الإنسان حركته نحو الكمال برأس مال الذكر والعمل بالقوانين الإلهية، كما يقول الإمام علي عليه السلام: "ذكر الله رأس مال كل مؤمن وربحه السلامة من الشيطان"13.

الثانية: ارتباط الذكر والحبّ

الذكر بالمعنى المذكور هو أساس حياة القلب والروح، لذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من ذكر الله سبحانه أحيا الله قلبه ونوّر عقله ولب"14. ودوام غذاء الذكر ضروريّ لاستمرار حياة الروح: "مداومة الذكر قوت الأرواح"15. وعندما يحيا القلب يستأنس بالله تدريجياً: "الذكر مفتاح الأنس"16. "من أكثر ذكر الله أحبه"17. إنّ لحبّ الله إذاً أثرين أحدهما أنّه يصون روح الإنسان ويعطيه العصمة من الحجب والأدران، والآخر أنه يجعل القلب منقطعاً لله.

الثالثة: ارتباط الحبّ والعصمة

إنّ أحد آثار وثمار الحبّ هو العصمة، بمعنى أنه عندما تصل علاقة ومحبة الإنسان لله إلى أوجها لا تسمح المحبة له بأن يفعل ما هو خلاف مراد المحبوب

وتطهّر القلب من جميع الرين. والعصمة هي الشيء الذي يمنع الإنسان من معصية الله، ويصونه من التلوّث بها، وما لم يستقرّ الإنسان في أوج قمة المحبة لله فلا يمكن أن يمتلك الصيانة من المعصية، ولذا جاء في المناجاة الشعبانية: "إلهي لم يكن لي حوْل فأنتقل به عن معصيتك إلا في وقتٍ أيقظتني لمحبتك".

الحب لا يطهر الأدران من القلب ويصون الإنسان من التلوّث بالمعاصي فقط، بل يصون من الشبهة أيضاً. يقول رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم في حديث له: "قال الله سبحانه إذا علمت أنَ الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حُلْتُ بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أَرَدْتُ أن أُهلِكَ أهل الأرض عقوبَةً زَوَيتُهَا عنهم من أجل أولئك الأبطال"18.

الرابعة: ارتباط الحبّ والانقطاع

أثر الحبّ الثاني هو أنه يجذب العاشق للمعشوق بحيث يقطع أيّ نوع من الارتباط مع أيّ شخص وأيّ شيء آخر، وهذا هو معنى الانقطاع. وفي مناجاة المحبّين المروية عن الإمام زين العابدين في الصحيفة السجادية: "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً".

إذا حققنا في الأمور التي ذكرت في باب العبادة في برنامج الأنبياء، نرى أن هذه الأمور قد نظمت بحيث إذا أنجزت بشكل صحيح وتام، فإنّ الإنسان سيصل بعد مدة وبشكل طبيعي إلى حالة الانقطاع وقطع الارتباط بكل ما سوى الله فتموت جميع الأهواء في القلب وتتحقق في الإنسان هذه الخصوصية التي ذكرها الإمام الصادق عليه السلام في صفات المؤمن وهي "ميّتة شهوته"19. حينئذ يكون نظر العين لله لا للهوى، وسمع الأذن لله لا للهوى، واليد والرجل تتحرّكان له عز وجل لا للهوى، وتصير إرادة الإنسان في نهاية الأمر مسلّمة لإرادة الحق، وبتعبير أدق وأعمق تصير إرادة الإنسان إرادة الله ويصل الإنسان إلى مقام الفناء في الله، وهو معنى الحديث القدسي: "ما تقرَب إليّ عبد بشي‏ء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرَب إليّ بالنّافلة حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته"20.

الخامسة: علاقة الانقطاع واللقاء

إنّ الإنسان طبقاً للروايات التي وردت عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، لا يصل إلى الكمال ولا ينال رؤيته القلبية واللقاء مع الله عزّ وجلّ ما لم يحصل الانقطاع. يقول سيد العارفين وإمام الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام: "لن تتصل بالخالق حتى تنقطع عن الخلق"21. ويقول عليه السلام أيضاً: "الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس"22.

وفي المناجاة الشعبانية التي تحتوي على مضامين عرفانية عالية وعميقة جداً، والتي كان المعصومون عليهم السلام بحسب المنقول يداومون على قراءتها: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأَنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة".

بناء على هذا إنّ أول درجة للعروج والوصول للكمال هي الذكر وآخر درجة هي الانقطاع ويصل الإنسان في مرحلة أوج الانقطاع إلى لقاء الله ورؤية الحق القلبية. ويمكن استنباط السير التكاملي من الإيمان إلى اليقين، أو من الذكر حتى اللقاء من هذه الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه: "قال الله سبحانه إذا علمت أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حُلْتُ بينه وبين أن يسهو. أولئك أوليائي حقاً أولئك الأبطال حقاً أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال"23.

ويقول الإمام الصادق عليه السلام في خصائص "أولي الألباب" والعقلاء بعد أن يبيّن أنّ العقلاء هم الذين وصلوا إلى الله عن طريق الفكر والحب: "إنّ أولي الألباب الّذين عملوا بالفكرة حتّى وَرِثُوا منه حُبَّ الله فإنّ حُبَّ الله إذا وَرِثَهُ القلب واستضاء به أَسْرَعَ إليه اللُّطف فإذا نزل (مَنْزِلَةَ) اللّطف صار من‏ أهل الفوائد فإذا صار من أهل الفوائد تَكَلَّمَ بالحكمة فصار صاحب فِطنَة فإذا نزل منزلة الفطنة عمل في القدرة فإذا عمل في القدرة عرف الأطباق السّبعة فإذا بلغ هذه المنزلة صار يتقلّب في فكره بلطف وحكمة وبيان فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبّته في خالقه فإذا فعل ذلك نزل المنزلة الكبرى فعاين ربّه في قلبه وورث الحكمة بغير ما ورثه الحكماء وورث العلم بغير ما ورثه العلماء وورث الصّدق بغير ما ورثه الصّدِّيقون"24.

وعلى هذا الأساس يختصر الإمام الرابع عليه السلام مطالبه الكثيرة من الله في مجال تزيين الروح بالصفات الحسنة بعدة كلمات وهي: "ونبّهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة، وانهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة أكمل لي بها خير الدنيا والآخرة..."25.
1- نهج البلاغة، خطبة 220.
2- العلّامة المجلسي، بحار الآنوار، ج66، ص196.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص51.
4- م. ن، ج1، ص138.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص97.
6- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص44.
7- م.س، ج1، ص98.
8- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج91، ص96.
9- م. ن، ج95، ص226.
10- م. ن ، ج40، ص153.
11- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص33.
12- الآمدي، غرر الحكم، ص188.
13- م. ن.
14- م. ن، ص189.
15- م. ن.
16- م. ن.
17- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 7، ص 154، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم، مطبعة مهر - قم، 1414هـ، الطبعة 2، باب استحباب كثرة ذكر الله...، ح 1.
18- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 9، ص162.
19- الشيخ الكليني، الكافي، ج2،ص 230.
20- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص352.
21- الآمدي، غرر الحكم، ص200.
22- م. ن، ص199.
23- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 90، ص162.
24- م. ن، ج36، ص404.
25- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية، دعاء مكارم الأخلاق.

أهل البيت لغة وعرفاً

أهل البيت لغة وعرفاً هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم، ويمكن تحديد مفهوم "الاَهل" من موارد استعماله فيقال: 1- أهل الاَمر وا...