قال تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾1.
مقدمة
تتحدث هذه الآية عن منة الله العظيمة على بني ادم والتي هي الجوارح والقوى التي تعينه في حياته المادية والمعنوية وقد علل المولى هذه الهبة وغايتها برجاء مقابلتها من العبد بالشكر.
ومن نافل القول أن الشكر الحقيقي على أي نعمة إنما تكون بالدرجة الأولى بصرفها وتوظيفها حيث يريد المنعم الكريم الله تبارك وتعالى وعدم استعمالها فيما يضاد حكمه وإرادته.
وإلى هذا المعنى يشير الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق: "وأما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعة الله فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى سمعك حقه، وإلى بصرك حقه، وإلى يدك حقها وإلى بطنك، حقها وإلى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك".
إذن فللجوارح حقوق ومعنى حقوق الجوارح هو حق الله فيها، وعلى الإنسان فيها والتي تتخلص بعدم استخدامها بخلاف إرادة الله.
فمعنى جهاد الجوارح ببساطة هو مجاهدتها لأجل إدخالها في سلك طاعة الله وبمعنى أوضح الغاية من جهاد الجوارح جعلها عابدة لله.
الجوارح والطاعة
إن اللسان والعين والأذن واليد والرجل والبطن والفرج هي أقاليم سبعة لطاعة الله أو معصيته أو الكفر به وبنعمه.
فهذه الجوارح هي أبواب إما لطاعة الله وإما لمعصيته، وبيدنا أن نجعلها عابدة مطيعة أو عاصية متمردة، وبأيدينا أن نجعلها في سلك أهل الولاية أو في سلك أهل المعاندة ومحاربة الله وأوليائه.
فعلى جوارحنا يتجلى إيماننا القلبي وبواسطة عملها يستكشف عمق وصلابة أو ضعف ووهن الإيمان واليقين.
الجوارح في الدنيا والآخرة
إن الجوارح في الدنيا عدا اللسان عمال خرس إلا اللسان فان عمله الكلام فهي في الدنيا إما عاملة في طاعة الله أو عاصية وفي كلا الحالين هي مطيعة لصاحبها يحركها بإرادته في الطاعة وهي في الدنيا في التعبير القرآني في حالة رقابة ومسؤولة قال تعالى: ﴿وَلاَ قْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾2.
فالجوارح في الآخرة تسأل فالقلب يسأل واللسان والسمع والبصر واليد والرجل... كلها تسأل.
تأمل قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾3.
وقوله عز من قائل: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾4.
ولكن اللسان هو الذي كان يعبر عنهم فماذا يحصل لترجمان القلب والجوارح.
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾5.
فالإنسان في الدنيا يخفي ما يفعل باليد الصماء والرجل العمياء والجوارح الخرساء ليتستر بها ولكن هل يستتر من الله؟
﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾6.
وكم يتعجب الإنسان حينما يرى الأخرس يتكلم والأعمى يشهد ويُدين ليجيب جوابها عن هذا التعجب:﴿أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ....﴾7.
جهاد الجوارح والجهاد الأكبر
إن الإمام الخميني قدس سره في كتابه الأربعون حديثاً يعتبر "إن مقام النفس الأول هو الملك الظاهر وساحة المعركة في الجهاد الأكبر في هذا المقام هو نفس الجسد وجنود هذه الحرب هي قواها الظاهرية التي وجدت في الأقاليم الملكية السبعة وهي: الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل"8.
وهو يعتبر إن المعركة تدور بين جعل هذه القوى تحت سلطان جنود الرحمن والعقل أو تصبح جنوداً للشيطان لتصبح مملكة خاصة به.
"إذاً، يكون جهاد النفس في هذا المقام، عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية وجعلها مؤتمرة بأمر الخالق، وعن تطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده"9.
الجوارح المؤمنة
إذاً فالجهاد الأكبر في مقام الجوارح هو جعلها جوارح مؤمنة، ففي الحديث: "لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن ادم وقسمه عليها وفرقه فيها فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت بها أختها...".
ومما فرض من الإيمان على الجوارح ما ورد في القران الكريم: في اللسان: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾10. ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾11 الخ.
وفي السمع: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...﴾12. ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا...﴾13 الخ.
وعن البصر والفرج: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾14. ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾15. وكثير من الآيات والروايات التي تتحدث عن أحكام وآداب كل جارحة نرجو أن يوفقنا الله لبيانها لاحقاً.
تنبيه من المفروض على كل عاقل أن يتفكر قبل جهاد جوارحه في هذه النعم وعجيب صنع الله فيها ودقة تدبيره لتؤدي الأغراض المطلوبة منها، هذا التدبير والدقة في الصنع يرشدان إلى عظيم عناية الله عز وجل. هذه العناية التي توجب مقابلتها بدقة شديدة في إدارتها في ساحات عملها وخدمتها.
* جهاد الجوارح ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- النحل:78. 2- الإسراء:36. 3- فصلت:20. 4- النور:24. 5- يس:65. 6- فصلت:22. 7- فصلت:21. 8- الإمام الخميني قدس سره الأربعون، ص27-28. 9- الإمام الخميني قدس سره الأربعون، ص27-28. 10- العنكبوت:46. 11- البقرة:83. 12- الزمر:17-18. 13- الفرقان:72. 14- غافر:19. 15- النور:30.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق