الحق والباطل في نهج البلاغة
تمهيد:
يرغب كل امرىء في معرفة الحق من الباطل والإطلاع على الحقيقة وتطبيقها على نفسه ومجتمعه.والجميع يودون نصرة الحق، وهم يدعون ذلك أيضاً.
وكل يقول: إن عملي، أو عملنا، ومواقفنا، وأسلوبنا في الحكم، ونمط حياتنا، ونظامنا الفكري والعقائدي، وسلمنا وحربنا، وعلاقاتنا الداخلية والخارجية... كلها على حق!
وكل منا يسعى لإظهار نفسه أنه على حق، وهذه الحالة النفسية من الأساليب والحيل المعروفة عند الإنسان التسويفي، إذ يدعي كل من الظالم والمظلوم، والمستعمر والمستعمر، والمعتدي والمعتدى عليه، بأنه على حق، ويحاول تبرئة نفسه من الباطل، وإلباس أعماله بلباس الحقيقة، ويزعم أن الحق معه، وأن له الحق في أن يفعل هذا الشيء أو ذاك.
إذن، ينبغي قبل كل شيء تعريف الحق والباطل ومعرفتهما. وبعد معرفة الحق والباطل، نستطيع أن نميز بين أنصار الحق الحقيقيين ومن يدّعونه كذباً وزوراً، فلا تنطلي علينا أحابيل أهل الباطل، ونميز الحق وقول الحق وسبيل الحق عن الباطل ومن يتبعه.
وهذا النوع من البحوث نافع وضروري جداً لجيل الشباب، وذلك لدفعه نحو "النظرة الواقعية" و "التفكير الواقعي" لكي يعرف الحق والحقيقة، ويطلع على سبيل النضج والتكامل، فيساهم بنجاح في صنع مستقبل المجتمع الإسلامي.
قال الإمام علي عليه السلام:"رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه"1.
تعريف الحق والباطل:
أ-الحق ما كان موجوداً مثل "القوانين المسيطرة على نظام الخلقة و...". والباطل ما ليس موجوداً بل يزعمون حوله وزاعم كاذبة.
ب-ان ما هو موجود ولا بد أن يكون وجوداً مثل "العدالة والنظام العام" هو الحق، وأن ما هو وجود ويجب ألا يكون له وجود، مثل "الظلم والجور، والإنحرافات الخلقية، والإعتداءات البشرية، والمزاعم الكاذبة و..." هو الباطل.
إذن فالتعريف الكامل للحق يكمن في عبارتين:
1- أن يكون له وجود
2- ويجب أن يكون له وجود.
إذ لو كان أساس معرفة الحق "وجوه" فحسب، لشمل ذلك كثيراًمن مصاديق الباطل الموجودة، ولكننا إذا ربطنا العبارتين السبقتين انتفى كل باطل.
إذن فالباطل أو غير الحق هو:
أ- أن يقال كذباً أن شيئاً ما موجود دون أن يكون له وجود.
ب- يجب أن لا يكون موجوداً حتى إن وجد في مكان ما.
ولا بد من التذكير بأن الأساس في الوجوب، وعدم الوجوب، قد حدده الله خالق الإنسان وأبلغه إلى البشرية عن طريق الوحي والقرآن.
قال الإمام علي عليه السلام:"كتاب ربكم فيكم مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله"2.
ضرورة معرفة الحق والباطل:
لا بد لبني البشر من أن يعرفوا الحق والباطل من أجل بناء ذولتهم وبلوغ الكمال الحقيقي، لأننا إذا جهلنا القوانين السائدة في الطبيعة.
عجزنا عن الإستفادة منها. وقد يؤدي ذلك إلى القضاء على سلامتنا وصحتنا.
فإذا لم نعرف، مثلاً، القوانين المسيطرة على جسم الإنسان ولم نميز بين الأطعمة السائغة النافعة، والمواد الضارة، لم نستطع الإستمرار في الحياة.
ونتيجة لذلك أننا إن لم نعرف-في الحياة الفردية والإجتماعية- المباديء والضوابط الأخلاقية، ولم نميز السلوك والتصرف المقبول والحق من غير المقبول والباطل، لم نبلغ سعادة ولا تكاملاً، ولاستحال علينا بناء الذات والمجتمع، إذ أن ضرورة بناء الذات والتكامل ترتبط بضرورة وجود الحقائق الثابتة.
الإمام علي عليه السلام، في "نهج البلاغة" ينبه البشرية إلى الحقائق الثابتة والمدهشة في النظام الأحسن للخلق، فيتحدث عن:
النظام:
والنظام المتنسق العام.
والنظام المستمر.
وقوانين الحياة الدقيقة.
وتناسق مجموعة نظام الوجود.
والهدفية في خلق المخلوقات.
يشير إلى ذلك لكي يصف خالق هذا النظام الأحسن كما يعرفه هو. وبعد أن ينتهي من إثبات وجود الله. يوجهنا نحو حلال الله وحرامه وحدوده، ويعرّف الحق والباطل والحقائق الخالدة الثابتة دائماً، واحدة بعد أخرى، ويذكّرنا في هذه المسيرة الحكيمة والعالمة بضرورة معرفة الحق وأتباعه، ويدعو البشرية إلى نصرة الحق.
إمكان معرفة الحق:
بعد أن يعرض الإمام عليه السلام حقائق نظام الوجود الرائعة، ويثبت وجود الخالق، نجده يقول:"قد أوضح لكم سبيل الحقّ، وأنار طرقه، فشقوةٌ لازمةُ، أو سعادةدائمة"3
ثم يشير إلى الهدية التي جاءت بها بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله ويدلنا على أن كل جهود بني الإسلام انصبت على تعريف الحق وفضح الباطل، فيقول:
"...وخلّف فينا راية الحق، من تقدّمها، مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحق"4 .
وبعد ذلك يشير إلى المواقف التي اتخذها هو فيقول:
"...وأقمت لكم على سنن الحقّ في جوادّ المضلّة حيث تلتقون ولا دليل"5 .
إذا ما طالعنا ما ورد في "نهج البلاغة" عن الحق والباطل توصلنا إلى النتائج التالية:
1-ان الحق والحقائق الثابتة والخالدة لها وجود، ويمكن معرفتها.
2-ان تكامل الفرد والمجتمع، من حيث الأبعاد المادية والمعنوية يكون في اتباع الحق والحقيقة.
3-ان التمرد على الحق يؤدي بالفرد والمجتمع إلى الإنحراف والفساد والسقوط.
4-يتحمل كل إنسان واجباً ومسؤولية في معرفة الحق والباطل.
ولما كان للحق وللحقائق وجود ووجب بلوغ النضج والسعادة بالنظرة الواقعية، فإن الإمام علي عليه السلام يرشدنا بالقول:"لا يؤنسنّك إلا الحقّ، ولا يوحشنّك إلا الباطل"6
ونظراً للمشاكل التي ترافق النظرة الواقعية و اتباع الحق فإنه يشجعنا جمعياً على الصبر والتحمل، لكي نسير دوماً على طريق الحق، ولا تجرنا المشاكل إلى الباطل، يقول عليه السلام: "...وعود نفسك التصبّر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحقّ"7 .
نتيجة لذلك يمكننا حصر ضرورة معرفة الحق والحقائق في الحالات التالية:
1- معرفة الحق والباطل من أجل بناء الذات.
2- معرفة الحق والباطل من أجل بناء الإنسان.
3- معرفة الحق والباطل من أجل بناء المجتمعات البشرية.
4- معرفة الحق والباطل من أجل بلوغ النضج والسعادة المعنوية.
5- معرفة الحق والباطل من أجل سلامة جسم الإنسان ونفسه.
6- معرفة الحق والباطل من أجل سيادة القيم الآخلاقية الصحيحة.
7- معرفة الحق والباطل من أجل معرفة مباديء الجهاد التحريري ضد الحكومات السلطوية.
8- معرفة الحق والباطل من أجل القضاء على الجهل.
إن الحق والحقيقة يعينان ما يجب، ويعينان القيم التكاملية.
الواقعية تعني القوانين السائدة في المنظومة الشمسية وفي الطبيعة، وفي المجتمع، وفي العالم، وفي نظام الخلق.
والحق يعني القوانين والمبادىء التكاملية السائدة في نظام الوجود،ولدى خالق الكائنات القدير الحي القيوم، والحق والحقيقة هما اللذان يتجسدان في الأحكام الإلهية، والقيم الأخلاقية، والعلاقات الإنسانية الصحيحة، والحدود والضوابط، وحكومة العدل الإلهي، لذا فمن الضروري معرفتهما واتباعهما، إذ إن إهمال الحق والتغاضي عنه تعقبه عواقب وخيمة لا تعوّض خسائرها.
إذن، فنحن قادرون على رؤية الحق ومشاهدة مصاديق الحقيقة في كل مكان وفي كل شيء، ثم تطبيق ذلك على أنفسنا وعلى حياتنا الفردية واللإجتماعية، والسير دوماً على طريق التكامل، إذ يقول الإمام عليه السلام:"...ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم"8 .
كيف نواجه الحق؟
بعد الاعتراف بوجود الحق والباطل ومعرفة تأثير كل منهما في تقرير مصير الفرد والمجتمع، علينا الآن أن نفكر جيداً: كيف يجب أن نكون أمام الحق والباطل؟
وعلى أي أساس نتخذ مواقفنا لكي نبلغ النضج والتكامل الحقيقي؟
ان الإجابة الصحيحة والشافية عن هذه الأسئلة يطرحها "نهج البلاغة" ضمن المواضيع الاتية:
1 ضرورة الوعي: ترتبط درجة نضج الفرد والمجتمع وتكاملهما ارتباطاً كاملاً بدرجة وعيهما ومعرفتهما الحق والباطل والحقائق، فالصحة النفسية والأخلاقية للفرد والمجتمع شأنها شأن الصحة والسلامة الجسدية فهي ترتبط مباشرة بمعرفة عوامل الصحة وسبل مكافحة الأمراض المختلفة.
اذن، ينبغي قبل كل شيء التوصل الى المعرفة والوعي اللازم.
يقول الإمام علي عليه السلام:"وَكَفى بِالمَرءِ جَهْلاً أَلاّ يَعرِفَ قَدرَهُ"9.
2 التزام الحق: بعد معرفة الحق من الباطل واكتساب الوعي اللازم، علينا التزام الحق والحقيقة والابتعاد عن الباطل. ان التزام الحق يعني السعي اليه والعمل به وعدم الخوف من أية مشاكل تقف على هذا الطريق.
قال الإمام عليه السلام:"أَفْضَلُ النّاسِ عِندَ اللّهِ من كانَ العَمَلُ بِالحَقِّ أَحَبُّ إِلَيهِ وَإنّ نَقَصَهُ وكَرّثَه، مِنَ الباطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيهِ فائِدَةً وَزادَهُ"10.
وفي عبارة أخرى يعلمنا أن الحق والحقيقة يجب ان يتخذا أساساً لعمل الانسان لكي ينال السعادة، فهو عليه السلام يقول:"... وَلْيَكُن أحَبُّ الأُمُورِ إِلَيكَ أَوْسَطُها في الحَقِّ وَأَعَمُّها في العَدلِ"11.
3 العمل: لا يكفي، في نظر "نهج البلاغة" معرفة الحق والحقيقة والميل اليهما، بل يجب أيضاً السعي للعمل بالواقع وتحقيقه وتطبيق الحق، والامتناع عن رفع الشعارات فقط.
يقول الإمام علي عليه السلام:"... وَاللّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن إِمْرَتِكُم، إِلاّ أَنْ أقيمَ حَقّاً أَو أَدفَعَ باطِلاً"12.
4 مقارعة الباطل: بعد معرفة الباطل، يجب العمل من أجل مكافحته والقضاء عليه واستئصال جذروه لكي يمهد السبيل أمام تحقيق الحق ويتسع المجال لتحقق النضج والتكامل، يقول الإمام عليعليه السلام:"وَأَيمُ اللّهِ لأَبقُرَنَّ الباطِلَ حَتّى أُخرِجَ الحَقَّ مِن خاصِرَتِهِ"13.
5 الانصياع للحق والحقيقة: بعد معرفة الحق والحقيقة، لا بد من التزامهما وتحقيقهما، ويجب عدم رفع لواء معارضة الحق والحقيقة، أو مناوءة القوانين السائدة في نظام الخلق، يقول الامام علي عليه السلام:"مَنْ أبدى صَفْحَتَهُ للِحَقِّ هَلَكَ"14.
بعد ذلك يشير الى زوال القيم وانهيارها لدى الأمم السالفة فيقول عليه السلام:"... فَإِنّما أَهَلَكَ مَن كانَ قَبلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنعُوا النّاسَ الحَقَّ فاشتَرَوهُ، وَأَخَذُوهُم بالباطِلِ فَافْتَدَوهُ"15.
6 التحرك ضمن حدود الحق: بعد معرفة الحقائق والانصياع للحق، علينا ادراك حقيقة أساس مفادها أن الحركة التكاملية لا تتحقق إلا ضمن حدود الحق وفي إطاره، ولن تكون نتيجة أي صراع مع الحق، أو تقدم عليه، أو تجاوزه إلاّ الهلاك والتعاسة، لذا لا بد من معرفة حدود الحق والحقيقة، واحترامها. يقول الإمام علي عليه السلام:"مَنْ تَعَدَّى الحَقَّ ضاقَ مَذهَبُهُ"16.
7 محاربة انصار الباطل: مثلما كان علينا القضاء على الباطل، ومكافحة المفاسد، علينا أيضاً محاربة انصار الباطل ومكافحتهم، لكي لا يتمكنوا من طرح الباطل من جديد، واشاعة الأفكار الباطلة، يقول الإمام علي عليه السلام:"... وَلَعَمري ما عَلَيَّ مِن قِتالِ مَن خالَفَ الحَقَّ وَخابَطَ الغَيَّ مِن إدهانٍ وَلا إيهانٍ"17.
8 معرفة مُثلُ الحق الكاملة: بعد معرفة الحق والباطل، فإن لمعرفة مثل الحق الكاملة اثاراً تربوية كثيرة، لأن الناس بحاجة الى المثال الكامل الحق في عملية بناء الذات واصلاح السلوك الفردي والاجتماعي، اذ باطاعته واتباعه يبلغ السعادة وينجو من الانحراف.
والامام علي عليه السلام يصف بهذا الشأن نبي الإسلام والأئمة الحقيقيين بأنهم مُثل الحق الكاملة، فيقول:"... أَرسَلَهُ داعِياً إِلى الحَقِّ وشاهِداً عَلَى الخلقِ"18.
ويقول عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:"وَبَينَكُم عِترَةُ نَبيكُم وَهُم أَزِمَّةُ الحَقِّ وَأَعلامُ الدّينِ"19.
وبذلك لن يواجه البشر مشكلة في السير على طريق التكامل ومحاربة الباطل والزيف، اذ ان الحق والحقيقة قائمان، ومعرفتهما أمر ممكن، كما أن مثل الحق الكاملة تدلنا دوماً على الفضائل وتحذرنا من الرذائل، وتدل البشرية على سبيل اتباع الحق ومقارعة الباطل. يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن:"الذّليلُ عِندِي عَزِيزٌ حَتّى اخُذَ الحَقَّ لَهُ، وَالقَويُّ عِندي ضَعِيفٌ حَتى اخُذَ الحَقَّ مِنه"20.
* كتاب الحق والباطل في نهج البلاغة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الخطبة205
2- الخطبة 1
3- الخطبة 157
4- الخطبة 100
5- الخطبة 4
6- الخطبة 130
7- الرسالة 31
8- الخطبة 182
9- الخطبة 16
10- الخطبة 125
11- الخطبة 53
12- الخطبة 33
13- الخطبة 104
14- الخطبة 16
15- الرسالة 79
16- الرسالة 31
17- الخطبة 24
18- الخطبة 116
19- الخطبة 87
20- الخطبة 37
تمهيد:
يرغب كل امرىء في معرفة الحق من الباطل والإطلاع على الحقيقة وتطبيقها على نفسه ومجتمعه.والجميع يودون نصرة الحق، وهم يدعون ذلك أيضاً.
وكل يقول: إن عملي، أو عملنا، ومواقفنا، وأسلوبنا في الحكم، ونمط حياتنا، ونظامنا الفكري والعقائدي، وسلمنا وحربنا، وعلاقاتنا الداخلية والخارجية... كلها على حق!
وكل منا يسعى لإظهار نفسه أنه على حق، وهذه الحالة النفسية من الأساليب والحيل المعروفة عند الإنسان التسويفي، إذ يدعي كل من الظالم والمظلوم، والمستعمر والمستعمر، والمعتدي والمعتدى عليه، بأنه على حق، ويحاول تبرئة نفسه من الباطل، وإلباس أعماله بلباس الحقيقة، ويزعم أن الحق معه، وأن له الحق في أن يفعل هذا الشيء أو ذاك.
إذن، ينبغي قبل كل شيء تعريف الحق والباطل ومعرفتهما. وبعد معرفة الحق والباطل، نستطيع أن نميز بين أنصار الحق الحقيقيين ومن يدّعونه كذباً وزوراً، فلا تنطلي علينا أحابيل أهل الباطل، ونميز الحق وقول الحق وسبيل الحق عن الباطل ومن يتبعه.
وهذا النوع من البحوث نافع وضروري جداً لجيل الشباب، وذلك لدفعه نحو "النظرة الواقعية" و "التفكير الواقعي" لكي يعرف الحق والحقيقة، ويطلع على سبيل النضج والتكامل، فيساهم بنجاح في صنع مستقبل المجتمع الإسلامي.
قال الإمام علي عليه السلام:"رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه"1.
تعريف الحق والباطل:
أ-الحق ما كان موجوداً مثل "القوانين المسيطرة على نظام الخلقة و...". والباطل ما ليس موجوداً بل يزعمون حوله وزاعم كاذبة.
ب-ان ما هو موجود ولا بد أن يكون وجوداً مثل "العدالة والنظام العام" هو الحق، وأن ما هو وجود ويجب ألا يكون له وجود، مثل "الظلم والجور، والإنحرافات الخلقية، والإعتداءات البشرية، والمزاعم الكاذبة و..." هو الباطل.
إذن فالتعريف الكامل للحق يكمن في عبارتين:
1- أن يكون له وجود
2- ويجب أن يكون له وجود.
إذ لو كان أساس معرفة الحق "وجوه" فحسب، لشمل ذلك كثيراًمن مصاديق الباطل الموجودة، ولكننا إذا ربطنا العبارتين السبقتين انتفى كل باطل.
إذن فالباطل أو غير الحق هو:
أ- أن يقال كذباً أن شيئاً ما موجود دون أن يكون له وجود.
ب- يجب أن لا يكون موجوداً حتى إن وجد في مكان ما.
ولا بد من التذكير بأن الأساس في الوجوب، وعدم الوجوب، قد حدده الله خالق الإنسان وأبلغه إلى البشرية عن طريق الوحي والقرآن.
قال الإمام علي عليه السلام:"كتاب ربكم فيكم مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله"2.
ضرورة معرفة الحق والباطل:
لا بد لبني البشر من أن يعرفوا الحق والباطل من أجل بناء ذولتهم وبلوغ الكمال الحقيقي، لأننا إذا جهلنا القوانين السائدة في الطبيعة.
عجزنا عن الإستفادة منها. وقد يؤدي ذلك إلى القضاء على سلامتنا وصحتنا.
فإذا لم نعرف، مثلاً، القوانين المسيطرة على جسم الإنسان ولم نميز بين الأطعمة السائغة النافعة، والمواد الضارة، لم نستطع الإستمرار في الحياة.
ونتيجة لذلك أننا إن لم نعرف-في الحياة الفردية والإجتماعية- المباديء والضوابط الأخلاقية، ولم نميز السلوك والتصرف المقبول والحق من غير المقبول والباطل، لم نبلغ سعادة ولا تكاملاً، ولاستحال علينا بناء الذات والمجتمع، إذ أن ضرورة بناء الذات والتكامل ترتبط بضرورة وجود الحقائق الثابتة.
الإمام علي عليه السلام، في "نهج البلاغة" ينبه البشرية إلى الحقائق الثابتة والمدهشة في النظام الأحسن للخلق، فيتحدث عن:
النظام:
والنظام المتنسق العام.
والنظام المستمر.
وقوانين الحياة الدقيقة.
وتناسق مجموعة نظام الوجود.
والهدفية في خلق المخلوقات.
يشير إلى ذلك لكي يصف خالق هذا النظام الأحسن كما يعرفه هو. وبعد أن ينتهي من إثبات وجود الله. يوجهنا نحو حلال الله وحرامه وحدوده، ويعرّف الحق والباطل والحقائق الخالدة الثابتة دائماً، واحدة بعد أخرى، ويذكّرنا في هذه المسيرة الحكيمة والعالمة بضرورة معرفة الحق وأتباعه، ويدعو البشرية إلى نصرة الحق.
إمكان معرفة الحق:
بعد أن يعرض الإمام عليه السلام حقائق نظام الوجود الرائعة، ويثبت وجود الخالق، نجده يقول:"قد أوضح لكم سبيل الحقّ، وأنار طرقه، فشقوةٌ لازمةُ، أو سعادةدائمة"3
ثم يشير إلى الهدية التي جاءت بها بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله ويدلنا على أن كل جهود بني الإسلام انصبت على تعريف الحق وفضح الباطل، فيقول:
"...وخلّف فينا راية الحق، من تقدّمها، مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحق"4 .
وبعد ذلك يشير إلى المواقف التي اتخذها هو فيقول:
"...وأقمت لكم على سنن الحقّ في جوادّ المضلّة حيث تلتقون ولا دليل"5 .
إذا ما طالعنا ما ورد في "نهج البلاغة" عن الحق والباطل توصلنا إلى النتائج التالية:
1-ان الحق والحقائق الثابتة والخالدة لها وجود، ويمكن معرفتها.
2-ان تكامل الفرد والمجتمع، من حيث الأبعاد المادية والمعنوية يكون في اتباع الحق والحقيقة.
3-ان التمرد على الحق يؤدي بالفرد والمجتمع إلى الإنحراف والفساد والسقوط.
4-يتحمل كل إنسان واجباً ومسؤولية في معرفة الحق والباطل.
ولما كان للحق وللحقائق وجود ووجب بلوغ النضج والسعادة بالنظرة الواقعية، فإن الإمام علي عليه السلام يرشدنا بالقول:"لا يؤنسنّك إلا الحقّ، ولا يوحشنّك إلا الباطل"6
ونظراً للمشاكل التي ترافق النظرة الواقعية و اتباع الحق فإنه يشجعنا جمعياً على الصبر والتحمل، لكي نسير دوماً على طريق الحق، ولا تجرنا المشاكل إلى الباطل، يقول عليه السلام: "...وعود نفسك التصبّر على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحقّ"7 .
نتيجة لذلك يمكننا حصر ضرورة معرفة الحق والحقائق في الحالات التالية:
1- معرفة الحق والباطل من أجل بناء الذات.
2- معرفة الحق والباطل من أجل بناء الإنسان.
3- معرفة الحق والباطل من أجل بناء المجتمعات البشرية.
4- معرفة الحق والباطل من أجل بلوغ النضج والسعادة المعنوية.
5- معرفة الحق والباطل من أجل سلامة جسم الإنسان ونفسه.
6- معرفة الحق والباطل من أجل سيادة القيم الآخلاقية الصحيحة.
7- معرفة الحق والباطل من أجل معرفة مباديء الجهاد التحريري ضد الحكومات السلطوية.
8- معرفة الحق والباطل من أجل القضاء على الجهل.
إن الحق والحقيقة يعينان ما يجب، ويعينان القيم التكاملية.
الواقعية تعني القوانين السائدة في المنظومة الشمسية وفي الطبيعة، وفي المجتمع، وفي العالم، وفي نظام الخلق.
والحق يعني القوانين والمبادىء التكاملية السائدة في نظام الوجود،ولدى خالق الكائنات القدير الحي القيوم، والحق والحقيقة هما اللذان يتجسدان في الأحكام الإلهية، والقيم الأخلاقية، والعلاقات الإنسانية الصحيحة، والحدود والضوابط، وحكومة العدل الإلهي، لذا فمن الضروري معرفتهما واتباعهما، إذ إن إهمال الحق والتغاضي عنه تعقبه عواقب وخيمة لا تعوّض خسائرها.
إذن، فنحن قادرون على رؤية الحق ومشاهدة مصاديق الحقيقة في كل مكان وفي كل شيء، ثم تطبيق ذلك على أنفسنا وعلى حياتنا الفردية واللإجتماعية، والسير دوماً على طريق التكامل، إذ يقول الإمام عليه السلام:"...ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم"8 .
كيف نواجه الحق؟
بعد الاعتراف بوجود الحق والباطل ومعرفة تأثير كل منهما في تقرير مصير الفرد والمجتمع، علينا الآن أن نفكر جيداً: كيف يجب أن نكون أمام الحق والباطل؟
وعلى أي أساس نتخذ مواقفنا لكي نبلغ النضج والتكامل الحقيقي؟
ان الإجابة الصحيحة والشافية عن هذه الأسئلة يطرحها "نهج البلاغة" ضمن المواضيع الاتية:
1 ضرورة الوعي: ترتبط درجة نضج الفرد والمجتمع وتكاملهما ارتباطاً كاملاً بدرجة وعيهما ومعرفتهما الحق والباطل والحقائق، فالصحة النفسية والأخلاقية للفرد والمجتمع شأنها شأن الصحة والسلامة الجسدية فهي ترتبط مباشرة بمعرفة عوامل الصحة وسبل مكافحة الأمراض المختلفة.
اذن، ينبغي قبل كل شيء التوصل الى المعرفة والوعي اللازم.
يقول الإمام علي عليه السلام:"وَكَفى بِالمَرءِ جَهْلاً أَلاّ يَعرِفَ قَدرَهُ"9.
2 التزام الحق: بعد معرفة الحق من الباطل واكتساب الوعي اللازم، علينا التزام الحق والحقيقة والابتعاد عن الباطل. ان التزام الحق يعني السعي اليه والعمل به وعدم الخوف من أية مشاكل تقف على هذا الطريق.
قال الإمام عليه السلام:"أَفْضَلُ النّاسِ عِندَ اللّهِ من كانَ العَمَلُ بِالحَقِّ أَحَبُّ إِلَيهِ وَإنّ نَقَصَهُ وكَرّثَه، مِنَ الباطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيهِ فائِدَةً وَزادَهُ"10.
وفي عبارة أخرى يعلمنا أن الحق والحقيقة يجب ان يتخذا أساساً لعمل الانسان لكي ينال السعادة، فهو عليه السلام يقول:"... وَلْيَكُن أحَبُّ الأُمُورِ إِلَيكَ أَوْسَطُها في الحَقِّ وَأَعَمُّها في العَدلِ"11.
3 العمل: لا يكفي، في نظر "نهج البلاغة" معرفة الحق والحقيقة والميل اليهما، بل يجب أيضاً السعي للعمل بالواقع وتحقيقه وتطبيق الحق، والامتناع عن رفع الشعارات فقط.
يقول الإمام علي عليه السلام:"... وَاللّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن إِمْرَتِكُم، إِلاّ أَنْ أقيمَ حَقّاً أَو أَدفَعَ باطِلاً"12.
4 مقارعة الباطل: بعد معرفة الباطل، يجب العمل من أجل مكافحته والقضاء عليه واستئصال جذروه لكي يمهد السبيل أمام تحقيق الحق ويتسع المجال لتحقق النضج والتكامل، يقول الإمام عليعليه السلام:"وَأَيمُ اللّهِ لأَبقُرَنَّ الباطِلَ حَتّى أُخرِجَ الحَقَّ مِن خاصِرَتِهِ"13.
5 الانصياع للحق والحقيقة: بعد معرفة الحق والحقيقة، لا بد من التزامهما وتحقيقهما، ويجب عدم رفع لواء معارضة الحق والحقيقة، أو مناوءة القوانين السائدة في نظام الخلق، يقول الامام علي عليه السلام:"مَنْ أبدى صَفْحَتَهُ للِحَقِّ هَلَكَ"14.
بعد ذلك يشير الى زوال القيم وانهيارها لدى الأمم السالفة فيقول عليه السلام:"... فَإِنّما أَهَلَكَ مَن كانَ قَبلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنعُوا النّاسَ الحَقَّ فاشتَرَوهُ، وَأَخَذُوهُم بالباطِلِ فَافْتَدَوهُ"15.
6 التحرك ضمن حدود الحق: بعد معرفة الحقائق والانصياع للحق، علينا ادراك حقيقة أساس مفادها أن الحركة التكاملية لا تتحقق إلا ضمن حدود الحق وفي إطاره، ولن تكون نتيجة أي صراع مع الحق، أو تقدم عليه، أو تجاوزه إلاّ الهلاك والتعاسة، لذا لا بد من معرفة حدود الحق والحقيقة، واحترامها. يقول الإمام علي عليه السلام:"مَنْ تَعَدَّى الحَقَّ ضاقَ مَذهَبُهُ"16.
7 محاربة انصار الباطل: مثلما كان علينا القضاء على الباطل، ومكافحة المفاسد، علينا أيضاً محاربة انصار الباطل ومكافحتهم، لكي لا يتمكنوا من طرح الباطل من جديد، واشاعة الأفكار الباطلة، يقول الإمام علي عليه السلام:"... وَلَعَمري ما عَلَيَّ مِن قِتالِ مَن خالَفَ الحَقَّ وَخابَطَ الغَيَّ مِن إدهانٍ وَلا إيهانٍ"17.
8 معرفة مُثلُ الحق الكاملة: بعد معرفة الحق والباطل، فإن لمعرفة مثل الحق الكاملة اثاراً تربوية كثيرة، لأن الناس بحاجة الى المثال الكامل الحق في عملية بناء الذات واصلاح السلوك الفردي والاجتماعي، اذ باطاعته واتباعه يبلغ السعادة وينجو من الانحراف.
والامام علي عليه السلام يصف بهذا الشأن نبي الإسلام والأئمة الحقيقيين بأنهم مُثل الحق الكاملة، فيقول:"... أَرسَلَهُ داعِياً إِلى الحَقِّ وشاهِداً عَلَى الخلقِ"18.
ويقول عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:"وَبَينَكُم عِترَةُ نَبيكُم وَهُم أَزِمَّةُ الحَقِّ وَأَعلامُ الدّينِ"19.
وبذلك لن يواجه البشر مشكلة في السير على طريق التكامل ومحاربة الباطل والزيف، اذ ان الحق والحقيقة قائمان، ومعرفتهما أمر ممكن، كما أن مثل الحق الكاملة تدلنا دوماً على الفضائل وتحذرنا من الرذائل، وتدل البشرية على سبيل اتباع الحق ومقارعة الباطل. يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن:"الذّليلُ عِندِي عَزِيزٌ حَتّى اخُذَ الحَقَّ لَهُ، وَالقَويُّ عِندي ضَعِيفٌ حَتى اخُذَ الحَقَّ مِنه"20.
* كتاب الحق والباطل في نهج البلاغة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الخطبة205
2- الخطبة 1
3- الخطبة 157
4- الخطبة 100
5- الخطبة 4
6- الخطبة 130
7- الرسالة 31
8- الخطبة 182
9- الخطبة 16
10- الخطبة 125
11- الخطبة 53
12- الخطبة 33
13- الخطبة 104
14- الخطبة 16
15- الرسالة 79
16- الرسالة 31
17- الخطبة 24
18- الخطبة 116
19- الخطبة 87
20- الخطبة 37
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق