معاجز النبي (ص) في القرآن الكريم
تشهد آيات الذكر الحكيم على أنّ النبيّ الأكرم جاء ـ وبالإضافة إلى المعجزة الخالدة: القرآن الكريم ـ بعدد من المعاجز والأفعال الخارقة للعادة ولم يكتفِ لهداية الناس وإرشادهم بالقرآن فقط، بل كلّما اقتضت الحاجة ودعت الضرورة جاء وبإذن الله بالمعجزة اللازمة.
المعجزة الأُولى: انشقاق القمر
قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَ إِنْ يَرَوا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [سورة القمر:1ـ 2] أطبق المفسّرون المسلمون كالزمخشري في كشافه، والطبرسي في مجمعه، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب، وابن مسعود في تفسيره و... على ما يلي: اجتمع المشركون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم، وكان ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا وأشار بأصبعه إلى القمر فانشق القمر فلقتين، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي: يا فلان يا فلان اشهدوا. ونحن هنا لا نريد التعرض إلى خصوصيات هذه المعجزة والإشكالات الصبيانية التي أُثيرت حولها، بل المهم هو دلالة الآية على وقوع المعجزة، وحينئذٍ لابدّ من أن نشرع في تفسير الآية: قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ} انّ الآية تشير إلى قرب وقوع القيامة حسب النظرة القرآنية وإن كان ذلك بعيداً في نظر الكافرين، وقد أكّد القرآن هذه الحقيقة في آية أُخرى حيث قال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَ نَريهُ قَرِيباً} [سورة المعارج:6ـ 7] ثم قال سبحانه بعد إخباره عن اقتراب الساعة: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. ومن المعلوم أنّ (انشق) فعل ماض ولا يمكن حمله ومن دون دليل على المستقبل، أي انّ الجملة تكون بمعنى الإخبار عن وقوع الانشقاق في المستقبل وحسب المصطلح لا يمكن القول: إنّ (انشق) يعني (ينشق). أضف إلى ذلك انّ الجملة السابقة {اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ} جاءت بصيغة الماضي وبمعنى تحقّق الاقتراب فعلاً، وبالطبع انّ جملة انشق القمر معطوفة عليها، فلابدّ أن تكون الجملة المعطوفة أيضاً بمعنى الماضي. وبالنتيجة لا يمكن لنا وبدون دليل أن نحمل لفظ (انشق) على المضارع، وانّه إخبار بأنّه حينما تقوم القيامة في المستقبل سوف ينشق القمر فلقتين. ولكن قد يُثار التساؤل التالي: ما هو وجه المناسبة بين اقتراب الساعة وبين انشقاق القمر على يد الرسول الأكرم؟ والجواب عن هذا التساؤل واضح، لأنّ انشقاق القمر وظهور النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من شرائط وعلامات القيامة، فمن هذه الجهة عطفت الجملتان إحداهما على الأُخرى. ولا ريب أنّ علامات القيامة محقّقة حسب الرؤية القرآنية حيث قال سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة الزخرف: 66] وقال سبحانه في آية أُخرى: {وَإِنْ يَرَوا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}. ومن المعلوم أنّ المراد من (آية) هو العلامة، وهي غير القرآن الكريم، والشاهد على ذلك انّه استعمل الفعل (يروا) ولو كان المقصود من الآية هو القرآن لكان من المناسب أن يأتي بفعل ينسجم مع القرآن الكريم كالنزول وغير ذلك. ولا ريب أنّ قوله: (يروا آية) إشارة إلى معجزة شق القمر التي ذكرت في الآية السابقة. ثمّ إنّ الإمعان في أجواء الآية يوضح وبجلاء انّ ظرف و زمان انشقاق القمر هو في هذه الدنيا لا في عالم الآخرة، وذلك لأنّه لا يمكن لأي أحد أن يصف تلك المعجزة في عالم الآخرة بأنّها سحر مستمر وانّهم سحروا كما سُحِر آباؤهم الأوّلون. وخلاصة القول: إنّ قوله: (سحر مستمر) إشارة واضحة إلى عملية (شقّ القمر) التي جرت على يد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد نقل لنا المفسّرون أنّ أبا جهل حينما رأى هذه المعجزة العظمى خاطب المشركين بقوله: (سَحَرَكُمْ ابْنُ أَبي كَبشَةَ) وأبو كبشة هو أحد أجداد الرسول الأكرم من جهة الأُمّ، ولذلك كان المشركون يصفون النبي بأنّه ابن أبي كبشة.
المعجزة الثانية: معراج النبي
إنّ الإسراء بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من المعاجز التي ادّعاها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه وأكّدها القرآن الكريم وبصراحة تامّة حيث قال سبحانه:{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الإسراء: 1] ولا شك أنّ هذه الرحلة الطويلة وفي منتصف الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والتي تمّت في فترة قياسية في زمن كانت فيه وسائط النقل بدائية جداً يُعدُّ معجزة كبيرة من معاجز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أثبت القرآن الكريم تلك المعجزة ودافع عنها بقوة في سورة النجم بحيث لم يبقِ شكّاً في القضية، بل انّ القرآن الكريم يخبرنا انّ هذ الرحلة النبوية لم تنحصر بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، بل تجاوزت ذلك إلى عالم آخر أبعد من هذه المسافة كثيراً، إذ تشير انّ هذه الرحلة قد انتهت عند (سدرة المنتهى) [سورة النجم:13ـ 18] ونحن لسنا بصدد البحث في تفاصيل حادثة المعراج تلك، وهل انّ هذا المعراج كان جسمانياً أو روحانياً؟ أو...، كذلك لسنا بصدد الردّ على الإشكالات الصبيانية الواهية التي قد تثار بوجه تلك القضية والدفاع عنها. بل إنّنا في مقام التركيز على نقطة واحدة وهي أنّ القرآن الكريم قد أثبت هذه المعجزة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطرق لها في سورتي الإسراء والنجم ودافع عنها بقوة. ومع ذلك كلّه كيف جاز للمسيحييّن ومقلّديهم الادّعاء: (انّ المسلمين ينسبون إلى نبيهم مجموعة من المعاجز، ولكنّ الإنسان تنتابه الحيرة والعجب حينما يرى أنّ القرآن الكريم لم يذكر من تلك المعاجز شيئاً ولا أخبر عنها). ونحن بدورنا أيضاً نتعجب من هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى العلم والفكر كيف يا ترى يفسّرون هذه الآيات الواردة في القرآن الكريم؟! وكيف جاز لهم القول بأنّ القرآن الكريم لم ينسب للنبي أي معجزة؟! ثمّ إنّ الروايات والأحاديث الإسلامية حول معراج النبي بدرجة من الكثرة بحيث يستحيل القول إنّها جميعاً من الأحاديث المجعولة والموضوعة. والحقّ انّ الإنسان ينتابه العجب والحيرة من منهج هؤلاء الذين يدرسون حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تراهم يذعنون ويسلّمون أمام خرافة وقصّة خيالية ينقلها الطبري عن طريق الآحاد، وهي قصة (الغرانيق)، ويستدلّون بذلك لإثبات روح المساومة والخضوع عند النبي الأكرم، أو أنّهم يعتمدون على ما نسب للسيدة خديجة (عليها السلام) مع (ورقة بن نوفل) حول رسالة النبي، وينطلقون من تلك القصة لإثبات أنّ النبي لم يكن على يقين من أمره، ولكنّهم في نفس الوقت يتجاهلون الأحاديث والروايات المتواترة التي نقلها الطبري نفسه وغيره من المفسّرين والمؤرّخين ويشطبون على ذلك كلّه. إنّ هؤلاء الكتّاب المتعصبين قد حكموا مسبقاً ثمّ راحوا يبحثون عن الدليل لدعم مدعاهم، فتشبّثوا بما يناسب حكمهم ونظريتهم بكلّ غثّ واكتفوا حتّى بالخبر الواحد، ولكنّهم أعرضوا عن المئات من الروايات والأحاديث، لا لشيء إلاّ لأنّها لم تنسجم مع معتقدهم وحكمهم، بل تنافيه بصراحة تامة.
المعجزة الثالثة: مباهلة النبي لأهل الكتاب
إنّ موضوع مباهلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنصارى نجران من القضايا التي تعرّض لها القرآن الكريم في سورة آل عمران الآية 61، وأثبت أنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان على استعداد تام ولإثبات أحقيّة رسالته أن يباهل كبار نصارى نجران، وقد ضرب لذلك موعداً محدداً معهم وأخبرهم بصورة قطعية بهلاكهم وفنائهم إذا ما باهلوه، ولم يكتف النبي بإظهار استعداده للمباهلة مع نصارى نجران فقط، بل أعلن ذلك للعالم كلّه حيث قال سبحانه: {فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبينَ} [سورة آل عمران: 61] وقد استعدّ النصارى للمباهلة، ولكنّهم حينما رأوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلك الهيبة العظيمة حيث جاء (صلى الله عليه وآله وسلم) محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليٌّ يمشي خلفها، راعهم ذلك المنظر المهيب وأعلنوا انصرافهم عن المباهلة حيث أدركوا بما لا ريب فيه أنّ هذه المباهلة لا تكون نتيجتها إلاّ العذاب القطعي والإبادة من على وجه الأرض. ثمّ إنّه لم ينحصر الأمر في نصارى نجران فقط، بل إنّنا نجد أنّه لم يتصد أحدٌ وطيلة حياة الرسول الأكرم لطلب المباهلة معه. صحيح انّ إعجاز النبي في إبادة نصارى نجران لم يتحقّق بالفعل، ولكنّ استعداد النبي للقيام بتلك المعجزة يُعدُّ صفعة محكمة لمن يدّعي انّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن على استعداد للإتيان بالمعجزة حينما يطلب ذلك منه، وانّه كان يواجه تلك الطلبات بالسكوت والانصراف والهروب والاكتفاء بالقول ما أنا إلاّ بشير ونذير.
المعجزة الرابعة: النبي الأعظم وبيّناته
تفيد الآية التالية أنّ النبيّ الأعظم جاء إلى الناس بالكثير من البيّنات، وهي المعجزات حيث قال سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ...} [سورة آل عمران: 86] والشاهد في الآية جملة {وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} و(البيّنات) جمع (البيّنة) بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر. ومن الممكن القول ـ ابتداءً ـ : إنّ المراد من البيّنات في الآية هو القرآن الكريم، أو يُراد البشائر الواردة في الكتب السماوية النازلة قبل القرآن حول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن ملاحظة الآيات الأُخر التي استعملت فيها هذه الكلمة وأُريد منها المعاجز والأعمال الخارقة للعادة توجب القول: إنّ المراد من البيّنات إمّا خصوص المعاجز والأُمور الخارقة للعادة، أو الأعمّ منها ومن غيرها الذي يشمل المعجزات أيضاً، ولا دليل على حصر مفاد الآية في القرآن الكريم أو البشائر الواردة في الكتب السماوية. إذا عرفنا ذلك نشير إلى طائفة من الآيات:
1. {...وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ...} [سورة البقرة: 87]
2. {...ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ...} [سورة النساء: 53]
3. {...إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ...} [سورة المائدة: 110]
4. {...وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ...} [سورة الأعراف: 101]. (1)
المعجزة الخامسة: إخبار النبي عن الغيب كالمسيح (عليه السلام)
يعتبر القرآن الكريم الإخبار عن المغيبات من معاجز السيد المسيح (عليه السلام) حيث قال سبحانه: {...وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ...} [سورة آل عمران: 49] ولقد جاءت هذه الجملة إلى جنب الآيات التي تعرضت لذكر سائر معاجز السيد المسيح (عليه السلام)، ومن المعلوم أنّ النبيّ الأكرم قد أخبر عن طائفة من المغيّبات بواسطة الوحي الذي يوحى إليه (2)، نذكر نماذج من تلك الإخبارات الغيبية التي جاءت في القرآن: منها: إخبارهم بانتصار الروم بعد الهزيمة التي منوا بها على يد الفرس حيث قال سبحانه: {ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * في أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِين} [سورة الروم:1ـ 4].
كما أخبر عن موت أبي لهب وامرأته أُمّ جميل على الكفر: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَب} [سورة المسد إلى آخر السورة]، كذلك أخبر عن موت الوليد بن المغيرة على الكفر والشرك {سَأُصْلِيهِ سَقَر * وَما أَدراكَ ما سَقَر} [سورة المدثر:26ـ 27] كذلك أخبر عن هزيمة قريش في معركة بدر: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} [سورة القمر: 45] أفلا تُعدّ كلّ هذه الإخبارات شاهداً على امتلاك النبي لمعجزات أُخرى غير القرآن؟!
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) هناك آيات أُخرى جاءت فيها لفظة البيّنات بمعنى المعجزات والأُمور الخارقة للعادة، ومن هذه الآيات: سورة يونس الآيات 13و74، سورة النحل الآية 44، سورة طه الآية 72، سورة غافر الآية 28، سورة الحديد الآية 25، وسورة التغابن الآية 16 و....
صحيح انّ المعنى اللغوي لكلمة ( البيّنات ) هو المعجزات والأُمور الخارقة للعادة، ولكن معناها أوسع وأشمل وانّ إحدى مصاديق البيّنات هو المعجزة، والبيّنة بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر والكاشف له، وإذا ما أطلق لفظ البيّنة على المعجزة فانّما يطلق بلحاظ انّ المعجزة توضّح وتكشف ارتباط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله سبحانه وتكشف عن صدق رسالته ودعوته، ولكن لما استعملت تلك اللفظة في آيات كثيرة وأُريد منها خصوص المعجزة على هذا الأساس نفسّر لفظة البيّنات في الآية المذكورة بنحو تشمل المعجزات والأُمور الخارقة للعادة.
(2) لقد بسط سماحة الشيخ السبحاني البحث في الإخبار عن المغيبات وبصورة مفصّلة في المجلد الثالث من مفاهيم القرآن، ص 503ـ 508، فمن أراد المزيد من الاطّلاع عليه مراجعة المصدر المذكور.
سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني
منقول من موقع مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق