========
آدم وحواء.. في القرآن الكريم
========
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {1}) النساء.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {189} الأعراف.
(خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ {6}) الزمر.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {33} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37}) البقرة.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {11} قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {12} قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ {13} قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {14} قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ {15} قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ {18} وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {19} فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ {20} وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ {21} فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ {22} قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23} قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {24} قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ {25} يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {26} يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ {27} وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {28} قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ {29} فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ {30}) الأعراف.
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا {61} قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً {62} قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا {63} وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا {64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً {65}) الإسراء.
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا {50}) الكهف.
(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا {115} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى {116} فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى {117} إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى {118} وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى {119} فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى {120} فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {122} قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123}) طه.
ملاحظات:
1- خلق الله آدم وخلق منه حواء.. هذه البداية تختصر كل معاني الاحتواء والانتماء، وتفسر لنا لماذا يمتاز الرجال بدرجة على النساء فيما يختص بالقيادة والإدارة.
ومما قاله الشعراوي ـ رحمه الله ـ في هذه النقطة، إنّ هذا الاختلاف في الخلق هو أساس اختلاف الوظائف والأدوار في الحياة.. فقد خلق آدم من الأرض، وهي مجال عمله..
أمّا المرأة فخلقت من جزء حيّ (ضلع آدم)، فالحياة مجال عملها (تربية الأبناء ورعاية الزوج).
ويمكن أن نرى في ذلك أيضا سبب اختلاف الشخصيّتين:
فقد خلق آدم من كلّ عناصر الأرض، فهو يتميّز بالتنوّع والقدرة على التغيير وعدم الارتباط الشديد بمكان أو بشيء..
بينما خلقت المرأة من ضلع آدم، فهي تنتمي لرجلها انتماء شديدا، وتراه عالمها، وتتخصّص في تفاصيل حياته الدقيقة، دون أن تكون لها نفس شمولية النظر التي يتمتّع بها الرجل.
2- الكلام اليهودي عن أنّ المرأة سبب الخطيئة لا محل له في القرآن.. فقد نسب إليهما الغواية معا.. وعوقبا عليها معا.. بل إنّ معظم الآيات كانت تخصّ آدم بالعتاب.
3- في معظم الآيات كان الخطاب موجها لآدم، الحديث عنه.. ومّرة يعاتبان معا وتنسب إليهما الخطيئة معا، وأخرى ينسب ذلك لآدم وحده.. ولا يجب أن نستغرب هذا.. فالرجل يمثل الأسرة ويحمل مسئولية زوجته وأبنائه إضافة إلى مسئوليته (دون أن ينقص من أوزارهم شيء).
4- مما سبق، يتضح لنا أنّ الرجل من حيث المرتبة الريادية، هو قائد المرأة وراعيها وحاميها، ووظيفتها في الحياة أن ترعاه وترعى أولاده، وهي بذلك كجذر الشجرة، لا تبدو للعين ولا تعلو على الساق أبدا.. ولكنّها تساعدها على الصمود ضد الرياح، ليتعاون الاثنان في حمل الثمار الناضجة وإهدائها للبشريّة.. ولا أعتقد أنّ أحدا يرى جذور الأشجار مظلومة لقيامها بهذه الوظيفة!.. ربّة الأسرة تحرّك المجتمع ضمنا.. حتّى لو لم يرَ البعض هذا.
5- وأخيرا أحبّ أن نتذكر معا السبب الرئيسيّ للصراع بين الخير والشرّ والإيمان والكفر، الذي يشكّل كلّ أركان حياتنا..
بدأ كلّ ذلك لأنّ مخلوقا متكبّرا لم يفهم كيف يمكن ـ وهو المخلوق من النار ـ أن يسجد لمخلوق من الطين، امتثالا لأمر خالقهما!
ومنذ تلك اللحظة بدأت معركتنا ولم تنتِه بعد..
فحذار أيّتها النساء أن تتمثّلن خطوات الشيطان ويجرفكنّ التكبّر والغرور لنفس هذا الخطإ الفادح!
فلتكن المرأة أفضل من الرجل.. ليس هذا ما يعنينا..
ما يعنينا هو امتثالها لأوامر الله ـ التي وضعها لينظّم علاقتها برجلها ممّا يعمل على تكامل الدورين وتسامى الحياة ـ وهو سبحانه أحكم وأعلم بالأصلح لكليهما فهو خالقهما.
أَللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ نَزَغَـاتِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَكَيْدِهِ وَمَكَائِدِهِ، وَمِنَ الثِّقَةِ بِأَمَـانِيِّهِ وَمَوَاعِيدِهِ وَغُرُورِهِ وَمَصَائِدِهِ، وَأَنْ يُطْمِعَ نَفْسَهُ فِي إضْلاَلِنَا عَنْ طَاعَتِكَ وَامْتِهَانِنَا بِمَعْصِيَتِكَ، أَوْ أَنْ يَحْسُنَ عِنْدَنَا مَا حَسَّنَ لَنَا، أَوْ أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْنَا مَا كَرَّهَ إلَيْنَا. أللَّهُمَّ اخْسَأْهُ عَنَّا بِعِبَادَتِكَ، وَاكْبِتْهُ بِدُؤوبِنَا فِي مَحَبَّتِكَ، وَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِتْراً لاَ يَهْتِكُهُ،
الاثنين، 26 مايو 2014
الأحد، 25 مايو 2014
أقوال علماء الشيعة والجمهور في مصحف الإمام علي (عليه السلام)
أقوال علماء الشيعة والجمهور في مصحف الإمام علي (عليه السلام)
قال الفضل بن شاذان (ت260هـ) في مقام الاحتجاج على العامّة ما لفظه: (ثم رويتم بعد ذلك كله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد الى علي بن أبي طالب عليه السلام ان يؤلف القرآن فألّفه وكتبه، ورويتم أن ابطال علي على أبي بكر البيعة [على ما] زعمتم لتأليف القرآن، فأين ذهب ما ألفه علي بن ابي طالب عليه السلام حتى صرتم تجمعونه من أفواه الرجال؟ ومن صحف زعمتم كانت عند حفصة بنت عمر بن الخطاب؟) [الإيضاح: 222].
وقال الصدوق (ت381هـ) في الاعتقادات: (اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس... الى أن يقول:
كما كان امير المؤمنين عليه السلام جمعه فلما جاءهم به قال: هذا كتاب ربكم كما أنزل على نبيكم، لم يزد فيه حرف، ولم يُنقص منه حرف، فقالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك. فانصرف وهو يقول: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]. [الاعتقادات للصدوق: 86، والحديث تجده في بصائر الدرجات: 213 / ح3 والكافي 2 / 633/ ح23].
وروى رحمه الله أيضاً في التوحيد والأمالي خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة خطبها بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) بسبعة أيام، وذلك حين فرغ من جمع القرآن) [التوحيد: 73/ ح27، الأمالي: 399/ ح9، وفيه: بتسعة أيام].
وقال الشيخ المفيد (ت413 هـ) لا شك ان الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنزيله وليس فيه شيء من كلام البشر، الى أن يقول: وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام القرآن المنزّل من أوله الى آخره، ألفه بحسب ما وجب من تأليفه...) [المسائل السروية: 78-82، المسألة التاسعة صيانة القرآن من التحريف، لزوم التقيّد بما بين الدفّتين].
وقال أيضاً في كتاب آخر: (وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم يُنقَصْ من كلمة ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً قال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} فسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف، وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه إميل والله اسأل توفيقه للصواب. [أوائل المقالات: 81]
وقال ابن شهر آشوب (ت588 هـ) في المناقب حكاية عن قول الآخرين: (... ضَمَّن اللهُ محمداً أن يجمع القرآن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليُّ ابن ابي طالب؛ قال ابن عباس: فجمع اللهُ القرآنَ في قلب عليٍّ، وجمعه عليٌّ بعد موت رسول الله بستّة أشهر).
وفي أخبار ابن أبي رافع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لعلي عليه السلام: (يا علي، هذا كتاب الله خذه إليك، فجمعه عليٌّ في ثوب فمضى الى منزله، فلمّا قُبض النبي (صلى الله عليه وآله) جلس علي عليه السلام فألّفه كما أنزله الله، وكان به عالماً). وحدّثني ابو العلاء العطّار [الحسن بن أحمد الهمداني] والموفّق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن علي بن رباح: أن النبي امر عليّاً بتأليف القرآن فألّفه وكتبه).
[وعن] جبلة بن سحيم، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: (لو ثنيت لي الوسادة وعُرف لي حقّي لأخرجت مصحفاً كتبته وأملاه عليَّ رسولُ الله) [مناقب آل أبي طالب: 1/320، باب درجات أمير المؤمنين عليه السلام].
ورويتم أيضاً أنه انما أبطأ علي عليه السلام عن بيعة أبي بكر لتأليف القرآن... [حلية الأولياء: 1/ 67، وعنه في مناقب آل أبي طالب: 1/ 319]
وقال أيضاً في مقدّمة كتاب معالم العلماء في فهرست كتب الشيعة: (بل الصحيح أن أول من صنّف فيه أمير المؤمنين عليه السلام؛ جمع كتاب الله جلّ جلاله) [معالم العلماء في فهرست كتب الشيعة: 38].
وقال السيد ابن طاووس (ت662) في سعود السعود نقلاً عن كتاب محمد بن منصور المقرئ: (إن القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد بن ثابت، وخالفه في ذلك أُبيّ، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ثم أعاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب، وأخذ عثمان محصف أُبيّ وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة فغسلها غسلاً، وكتب عثمان مصحفاً لنفسه، ومصحفاً لأهل البصرة، ومصحفاً لأهل الشام [سعد السعود: 278].
كما أنه رحمه الله نقل كلام الرهني ما لفظه: (قلت: ولم يدع أبو حاتِمٍ ـ مع ما قاله وهجاؤه الكوفة وأهلها ـ ذِكرَ تأليف علي بن أبي طالب القرآن وأن النبي (صلى الله عليه وآله) عهد إليه عند وفاته أن لا يرتدي بُردة الا لجمعة حتى يجمع القرآن، فجمعه، ثم حكى عن الشعبي على إثر ما ذكره أنه قال: كان أعلم الناس بما بين اللوحين عليّ بن أبي طالب عليه السلام [سعد السعود: 228].
وقال العلامة الحلي (ت726 هـ) في كشف اليقين وهو في مقام بيان فضائل أمير المؤمنين عليه السلام: (وإنه عليه السلام اشتغل بجمع القرآن بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) قبل كلّ أحد. روى أبو المؤيد [يعني أخطب خوارزم الموفّق بن أحمد الحنفي] بإسناده الى علي عليه السلام، قال: لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقسمت أن لا أضع ردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين اللوحين، فما وضعت ردائي عن ظهري حتى جمعت القرآن...) [كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين: 65].
وقال أيضاً في تذكرة الفقهاء: (يجب أن يُقرأ بالمتواتر من القراءات وهي السبعة... ويجب أن يُقرأ بالمتواتر من الآيات وهو ما تضمّنه مصحف علي عليه السلام لأن أكثر الصحابة اتّفقوا عليه، وحرق عثمان ما عداه) [انظر تذكرة الفقهاء 3 / 141 / مسئلة 227 مبحث الوضوء].
بهذا فقد عرفت أن أخبار المصحف موجودة في الكتب الحديثية والفقهية والكلامية والتفسيرية الشيعية، وفي بعضها ترى الامام عليه السلام قد جمعه في ثلاثة أيام، وفي أخرى سبعة أيام، وفي ثالثة ستة أشهر. فكان علينا السعي للجمع بين تلك الأقوال، وخصوصاً حينما نرى أن اخبار مصحف أمير المؤمنين عليه السلام لم تنحصر في كتب الشيعة، بل هي موجودة في كتب الجمهور أيضاً، وإليك تلك الاخبار.
أخبار مصحف الإمام علي عليه السلام في كتب الجمهور:
• روى الصنعاني (ت211هـ) بسنده عن عكرمة، قال: (لما بويع لأبي بكر تخلف علي في بيته فلقيه عمر فقال: تخلّفت عن بيعة ابي بكر؟ فقال: إني آليت بيمين حين قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا أرتدي برداء إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى أجمع القرآن، فإني خشيت أن يتفلّت القرآن ثم خرج فبايعه) [المصنّف لعبد الرزاق: 5 / 450 / ح 9765 باب بيعة أبي بكر، شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 37 / ح24 وفيه فإني خشيت أن ينقلب القرآن].
• وروى ابن سعد (ت230هـ) في الطبقات الكبرى عن اسماعيل ابن ابراهيم عن أيوب وابن عون، عن محمد، قال: (نُبئت أن علياً أبطأ عن بيعة أبي بكر فلقيه أبو بكر فقال: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا ولكنّني آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن. قال: فزعموا أنه كتبه على تنزيله، قال محمد: فلو اصيب ذلك الكتاب كان فيه علم قال ابن عون: فسألت عكرمة عن ذلك الكتاب، فلم يعرفه) [الطبقات الكبرى: 2 / 338].
• وروى ابن ابي شيببة (ت235هـ) في مصنفه قال: (حدثنا يزيد بن هارون، قال: اخبرنا ابن عون، عن محمد قال: لما استخلف ابو بكر قعد علي في بيته، فقيل لأبي بكر، فأرسل اليه: أكرهت خلافتي؟
قال: لا، لم أكره خلافتك، ولكن كان القرآن يزاد فيه، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعلتُ علَيَّ أن لا أرتدي إلا الى الصلاة حتى أجمعه للناس. فقال أبو بكر: نِعْمَ ما رأيت) [المصنف لابن أبي شيبة 6 / 148 / ح 20230، باب 35 / ح2].
وفي شواهد التنزيل أن جماعة قالوا لأبي بكر: (ان علياً قد كرهك، فأرسل اليه، فقال: أكرهتني؟ فقال: والله ما كرهتك، غير أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبض ولم يجمع القرآن، فكرهت أن يزاد فيه، فآليت بيمين أن لا أخرج إلا الى الصلاة حتى أجمعه فقال: نِعْمَ ما رأيت) [شواهد التنزيل: 1 / 37 / ح22].
• وذكر البلاذري (ت279 هـ) في أنساب الأشراف ما نصّه: المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن سليمان التيمي، وعن ابن عون: أن أبا بكر أرسل الى علي يريد البيعة، فلم يبايع.
فجاء عمر ومعه قبس، فتلقّته فاطمة على الباب فقالت فاطمة: يابن الخطّاب، أتراك محرّقاً عليّ بابي؟
قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك.
وجاء عليٌّ فبايع، وقال: كنتُ عزمت أن لا أخرج من منزلي حتى أجمع القرآن) [أنساب الأشراف: 1 / 586، أمر السقيفة وبيعة أبي بكر].
• وفيه أيضاً: (حدّثنا سلمة بن الصقر، وروح بن عبد المؤمن قالا: ثنا عبدالوهاب الثقفي، أنبأ أيّوب، عن ابن سيرين، قال: قال أبو بكر لعلي عليه السلام: أكرهت إمارتي؟
قال: لا، ولكني حلفت أن لا أرتدي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) برداء حتى أجمع القرآن كما أنزل) [أنساب الأشراف: 2 / 269 / أمر السقيفة].
• وقال اليعقوبي (ت292هـ) في تاريخه: (وروى بعضهم أن علي أبن أبي طالب كان جمعه لمّا قبض رسول الله وأتى به يحمله على جمل، فقال: هذا القرآن قد جمعته، وكان قد جزّأه سبعة أجزاء، فالجزء الأوّل البقرة...) [تاريخ اليعقوبي: 2 / 135].
• وروى ابن الضريس (ت294 هـ) في فضائل القرآن: (أخبرنا أحمد، ثنا أبو علي بشر بن موسى، ثنا هوذة بن خليفة، ثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن عكرمة فيما أحسب، قال: لمّا كان بعد بيعة أبي بكر، قعد علي بن أبي طالب عليه السلام في بيته، فقيل لأبي بكر: قد كره بيعتك. فأرسل إليه فقال: أكرهت بيعتي؟ فقال: لا والله قال: ما أقعدك عني؟ قال: رأيت كتاب الله يزاد فيه، فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمعه، فقال له أبوبكر: فإنك نِعْمَ ما رأيت.
قال محمد [بن سيرين] فقلت له [أي لعكرمة] ألّفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلّفوه ذلك التأليف [يعني به تأليف علي عليه السلام] ما استطاعوا. قال محمد: أراه صادقاً) [فضائل القرآن لمحمد بن أيوب بن الضريس: 36 / ح21].
• وفي كتاب المصاحف للسجستاني (ت316هـ) بسنده عن ابن سيرين أنه قال: (لمّا توفّي النبي (صلى الله عليه وآله) أقسم علي أن لا يرتدي برداء الا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف، ففعل، فأرسل إليه ابو بكر بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا والله، الا أني أقسمت أن لا ارتدي برداء الا لجمعة، فبايعه ثم رجع) [المصاحف للسجستاني: 1 / 169 / ح31، وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر: 42 / 398 ، 399].
• وروى الجوهري (ت 323 هـ) في كتاب (السقيفة وفدك) عن يعقوب، عن رجاله، قال: (لمّا بويع ابو بكر تخلف علي فلم يبايع فقيل لابي بكر: إنه كره إمارتك، فبعث اليه، وقال: أكرهت إمارتي؟ قال: لا، ولكن القرآن خشيت أن يزاد فيه، فحلفت أن لا أرتدي رداء حتى أجمعه، اللهم الا إلى صلاة الجمعة) [السقيفة وفدك: 66، وانظر مصنف بن أبي شيبة: 6 / 148 / ح 30230، وانظر شرح نهج البلاغة: 6 / 41].
• وفي حلية الاولياء لأبي نعيم (ت 430 هـ): حدّثنا سعد بن محمد الصيرفي، حدثنا محمد بن عثمان بن ابي شيبة، حدثنا ابراهيم بن محمد ابن ميمون، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن عبد خير، عن علي قال: (لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقسمت ـ او حلفت ـ ان لا أضع ردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين اللوحين، فما وضعت ردائي عن ظهري حتى جمعت القرآن) [حلية الأولياء: 1 / 67، ترجمة الامام علي، وانظر كنز العمال: 13 / 66 / ح36473].
• وروى المستغفري (ت 432 هـ) في فضائل القرآن بإسناده عن كثير بن أفلح، قال: (اختلف الناس في القراءة في إمارة عثمان... الى أن قال فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) لزم علي بن أبي طالب بيته، فقيل لابي بكر: ان علياً كره امارتك، فارسل اليه ابو بكر فقال له: تكره امارتي؟ فقال: لا، ولكن كان النبي (صلى الله عليه وآله) حياً والوحي ينزل، والقرآن يزاد، فيه فلما قبض النبي (صلى الله عليه وآله)، جعلت على نفسي أن لا أرتدي بردائي حتى اجمعه للناس، فقال أبو بكر: أحسنت، قال محمد: فطلبت ما ألّف فأعياني، ولم أقدر عليه، ولو أصبته كان فيه علم كثير) [فضائل القرآن للمستغفري: 1 / 358 / ح420].
• قال ابن عبد البر (ت 463 هـ) في الاستذكار: (وجَمْعُ علي بن أبي طالب للقرآن أيضاً عند موت النبي (صلى الله عليه وآله) وولاية أبي بكر فإنما كل ذلك على حسب الحروف السبعة لا كجمع عثمان على حرف واحد ـ حرف زيد بن ثابت ـ وهو الذي بأيدي الناس بين لوحي المصحف اليوم) [الاستذكار: 2 / 485].
• وفي شواهد التنزيل للحسكاني (من أعلام القرن الخامس) بسنده عن السدي، عن عبد خير، عن علي عليه السلام انه قال: (رأى من الناس طيرةً عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأقسم أن لا يضع على ظهره رداء حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته حتى جمع القرآن، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن، جمعه من قلبه، وكان عند آل جعفر) [شواهد التنزيل: 1 / 37 / ح23، الصاحبي، لابن فارس: 326].
وفي خبر آخر عن السدي، عن عبد خير عن يمان، قال: (لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) أقسم علي ـ او حلف ـ أن لا يضع رداءه على ظهره حتى يجمع القرآن بين اللوحين، فلم يضع رداءه على ظهره حتى جمع القرآن) [شواهد التنزيل: 1 / 27 / ح25، وانظر المناقب للخوارزمي: 94 / ح93].
• وروى الحسكاني في شواهد التنزيل بإسناده عن محمد بن سيرين انه قال: (لمّا مات النبي (صلى الله عليه وآله) جلس عليٌّ في بيته فلم يخرج فقيل لابي بكر: ان علياً لا يخرج من البيت كأنه كره إمارتك. فأرسل اليه فقال: أكرهت امارتي؟ فقال: ما كرهت إمارتك ولكني ارى القرآن يزاد فيه فحلفت أن لا ارتدي برداء الا للجمعة حتى اجمعه. قال ابن سيرين: فنبّئت انه كتب المنسوخ وكتب الناسخ في أثره) [شواهد التنزيل: 1 / 38 / ح27].
• وقال محمد بن عبدالكريم الشهرستاني (ت 548 هـ) في مقام التعليق على جمع الخلفاء للقرآن: (كيف لم يطلبوا جمع علي بن أبي طالب؟! أو ما كان أكتب من زيد بن ثابت؟! أو ما كان أعرب من سعيد بن العاص؟! أو ما كان أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الجماعة؟! بل تركوا بأجمعهم جمعه واتخذوه مهجوراً ونبذوه ظهرياً وجعلوه نسياً منسياً وهو عليه السلام لما فرغ من تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، آلى أن لا يرتدي بُرداً الا لجمعة حتى يجمع القرآن؛ إذ كان مأموراً بذلك أمراً جزماً، فجمعه كما أنزل من غير تحريف وتبديل، وزيادةٍ ونقصانٍ. وقد كان أشار النبي (صلى الله عليه وآله) الى مواضع الترتيب والوضع، والتقديم والتأخير، قال أبو حاتم: إنه وضع كلّ آية الى جنب ما يشبهها.
ويروى عن محمد بن سيرين انه كان كثيراً ما يتمنّاه، ويقول: لو صادفنا ذلك التأليف لصادفنا فيه علماً كثيراً.
وقد قيل: انه كان في مصحفه المتن والحواشي؛ وما يعترض من الكلامين المقصودين كان يكتبه على العرض والحواشي) [مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار: 1 / 120].
• وفي تاريخ دمشق لابن عساكر (ت571 هـ) عن ابن سيرين، قال: (قال علي عليه السلام: لمّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) آليت أن لا آخذ عليّ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه) [انظر تاريخ دمشق 42 / 398، 399].
• وفي شرح النهج لابن أبي الحديد (ت656 هـ) قال أبو بكر [الجوهري]: (وقد روي في رواية اخرى أن سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام والمقداد بن الاسود ايضاً، وانهم اجتمعوا على أن يبايعوا علياً، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج اليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة عليها السلام تبكي وتصيح، فنهنهت من الناس، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس، وانما اجتمعنا لنؤلّف القرآن في مصحف واحد، ثم بايعوا أبا بكر فاستقر الأمر واطمأنّ الناس) [شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 57].
• وقال محمد بن جزي الكلبي (741 هـ) في التسهيل لعلوم التنزيل: (كان القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) متفرقاً في الصحف وفي صدور الرجال، فلمّا توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قعد علي بن أبي طالب عليه السلام في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد) [التسهيل لعلوم التنزيل 1 / 4].
• وقال الذهبي (ت 748 هـ) في تاريخ الاسلام في ضمن عدّة روايات في فضائل الامام علي عليه السلام قال: (ومنها عن سليمان الاحمسي عن أبيه قال: قال علي: والله ما نزلت آية الا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، وإن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً) [تاريخ الإسلام 3 / 637، وذكره أيضاً ابن سعد في الطبقات الكبرى 2 / 338، والبلاذري في أنساب الأشراف 2 / 99 طبع مؤسسة الأعلمي].
• وقال محمد بن سيرين (لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبطأ عليّ عن بيعة أبي بكر فلقيه أبو بكر فقال: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا ولكن آليت لا أرتدي بردائي الا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن فزعموا أنه كتبه على تنزيله فقال محمد: لو اصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم) [الاستيعاب لابن عبد البر 3 / 974، شرح ابن أبي الحديد 6 / 41].
• وقال سعيد بن المسيب: (لم يكن أحد من الصحابة يقول: (سلوني) الا علي) [تاريخ الإسلام 3 / 637 ـ 638].
هذه هي مجموعة من النصوص تنبئك عن اتفاق الفريقين على وجود هذا المصحف، وللمزيد يمكنك الرجوع الى كتاب البرهان للزركشي (ت 794 هـ) والفرقان لابن الخطيب (ت809 هـ) والاتقان للسيوطي (ت911هـ) ومناهل العرفان للزرقاني (ت1367هـ) وغيرهم كي ترى أن امتداد الاعتراف بوجود هذا المصحف كان سائداً حتى في العصور اللاحقة.
وهذه الروايات والأقوال وإن كنّا لا نقبل تفصيلاتها، لكنها متفقة على أمر واحد وهو أن علياً قد جمع القرآن مدوّناً كما تقول به الشيعة.
كما يلاحظ فيها سكوت أبي بكر عن عملية جمع الامام أمير المؤمنين عليه السلام للمصحف ـ مع تأويله وتفسيره ـ أيام خلافته وقوله للامام عليه السلام (نعم ما رأيت) وفي آخر: (أحسنت) وهما يشيران الى وجود هذا المصحف وكتابه قبل عهد أبي بكر لأن جمع القرآن لا يأتي بين عشية وضحاها، بل في النصوص الاخرى إشارة الى انه عليه السلام كتبه منذ عصر الرسول (صلى الله عليه وآله).
كما ان نصوص تدوين الإمام عليه السلام للمصحف عند الفريقين تخطّئ ما حكي عن ابن أبي قحافة من انه كلف زيداً بجمع القرآن؛ لأنه لو كان قد كلفه لما قبل عذر الإمام عليه السلام وتعليله ولقال له: لا أقبل تعليلك؛ لأني كلفت زيد بن ثابت بهذه المهمة.
نعم قد يقال بأنه كلف زيداً بعد الاشهر الستة التي جلس فيها الامام عليه السلام في بيته أي انه كلفه بعد أن رد مصحف الامام علي عليه السلام لاشتماله على فضائح القوم من لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تفسير الآيات؛ لأن في خبر الاحتجاج: (فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فضائح القوم...) [الاحتجاج 1 / 227].
فلو قلنا بهذا الاحتمال فهو يصحح ما جاء في الكتب الشيعية من أن الخليفة أراد بجمعه حذف تلك الاسماء لقول الراوي في تلك الاخبار: (ثم احضروا زيد بن ثابت ـ وكان قارئاً للقرآن ـ فقال له عمر: ان علياً جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والانصار وقد رأينا أن نؤلّف القرآن ونسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والأنصار فأجابه زيد إلى ذلك...) [الاحتجاج 1 / 228].
وكلامي هذا لا يعني بأني أريد أن اصحّح كلام الطبرسي في الاحتجاج لكني أقول: إن أردتم أن تقولوا بذلك فيترجح مدعى الشيعة الامامية.
بعد كل هذا علينا أن نلخص كلام الجمهور في نقاط:
1. تخلف الامام علي عليه السلام عن بيعة أبي بكر واشتغاله بجمع القرآن.
2ـ قالوا لأبي بكر إن علياً كره مبايعتك او ان أبا بكر قال لعلي: كرهت خلافتي فأجاب الامام عليه السلام في بعض الاخبار بانه خشي (ان ينفلت القرآن) وفي آخر (رأيت كتاب الله يزاد فيه) وفي ثالث: (بأن النبي كان حياً والوحي ينزل عليه والقرآن يزاد فيه فلما قبض...) وفي كل ذلك يقول ابو بكر: (فانك نعم ما رأيت). وفي آخر: (لقد أحسنت).
3. حلف الامام عليه السلام ألا يرتدي برداء حتى يجمع القرآن كما أنزل، قال ابن سيرين: (نبئت بانه كتب المنسوخ وكتب الناسخ) وفي آخر عنه: (فزعموا أنه كتبه على تنزيله) وقال أيضاً: (طلبت ما ألف فأعياني). وفي كلام الجزي: (فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كثير ولكنه لم يوجد).
4. حمل الامام علي مصحفه الى القوم على جمل ثم قال: (هذا القرآن قد جمعته). قال اليعقوبي: (كان قد جزأه سبعة أجزاء، فالجزء الأول البقرة...).
5. في كلام ابن عبد البر: (ان الامام عليه السلام جمع القرآن عند موت النبي (صلى الله عليه وآله) وولاية أبي بكر على حسب الأحرف السبعة، لا كجمع عثمان على حرف واحد ـ حرف زيد بن ثابتـ).
6. قال الامام عليه السلام ـ حسب رواية الذهبي ـ (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت) [تاريخ الإسلام 3 / 637]، وعلى من نزلت. قال سعيد ابن المسيب: (لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلا عليّ بن أبي طالب عليه السلام) [تاريخ دمشق 42 / 399].
إذاً مسألة جمع القرآن ترتبط بنحو وآخر بالإمام علي عليه السلام وأمّا سائر الجامعين للقرآن، فقد كانوا من الصحابة وهم ليسوا بمعصومين باعتراف الجميع، وخصوصاً زيد بن ثابت الذي خالفه كبار الصحابة أمثال ابن مسعود، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى لم يرد دليل من العقل أو الشرع على وجوب اتباع مصحف صحابي بعينه، لاحتمال وقوعه في الغلط والاشتباه، وأن يكون ممّن قدم ما أخّره الله أو أخّر ما قدمه الله. لهذا نرى الخلفاء اعتمدوا شاهدين عند تدوينهم المصحف، أي أنهم اعتمدوا البينة لا التواتر في عملهم ومعناه عدم اعتقادهم بوجود نسخة صحيحة عند أحد من الصحابة بحيث يمكن اعتمادها أصلاً في تدوين المصحف.
أو قل إنهم بادعائهم الخاطئ أرادوا أن يقولوا بشيء خطير وهو وجود تواتر اجمالي على عدم تحقق جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنهم بهذا الكلام ضربوا الدين في صميمه؛ لأنه لو ثبت ما قالوه لأمكن ادعاء وقوع التحريف في الكتاب العزيز؛ لأن العقل لا يمكنه أن يثبت بأن المجموع حالا هو جميع القرآن، وذلك لعدم تصدر المعصوم ـ وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ لتدوينه وترتيبه وجمعه بين اللوحين، بل أنّ جمعه قد حصل بعد وفاته وفي أيام الفتنة وظهور البدع و...
فمن الطبيعي أن يُشكّ بهكذا جمع للقرآن ولا يطمئن إليه، بل يحتمل الزيادة والنقصان فيه، إذ العقل والشرع يمنعان من اتباع غير العلم.
لكنّا لا نقبل هذا الكلام، ونرى فيه مساساً بالدين، مؤكّدين على أن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو نفسه الذي نزل على النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، هو الذي أشرف على ترتيبه وتدوينه، وأن الناس كانوا يقرؤون بسوره وآياته في عهده ثم من بعده، بل زيادة ولا نقصان، ومعناه أن الاطروحة الآنفة هي اطروحة خاطئة وأن التواتر بقرآنية هذا القرآن هو الذي يصحح قرآنيته لا ما اعتبروه من شهادة الاثنين في طريقة جمع الخلفاء، فإنّا لا نقبل اطروحتهم لأنها أقرب الى التحريف من القول بحجية القرآن.
إذ أن للشيعة سنداً صحيحاً إلى مجموع هذا القرآن، خصوصاً أسنادهم من أمير المؤمنين علي عليه السلام الى الامام الصادق عليه السلام والذي رواه الجمهور أيضاً، كما لهم أسانيد للآيات آية آية موجودة في التفاسير الروائية؛ وإنّ أسانيد روايات أهل البيت القراءات السبع موجودة في تفسير التبيان للشيخ الطوسي يمكن للباحث مراجعتها.
ويضاف إليه بأن النسخة المطبوعة من القرآن في المدينة المنورة هي المروية عن حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فهي ليست نسخة عثمان بن عفان أو مصحفه كما يقولون؛ لأنه لم تثبت قراءته عليه وعلى أبيّ بن كعب حسبما سيأتي لاحقاً.
وباعتقادي أنهم أرادوا بأطروحتهم الخاطئة أن يرفعوا بضبع الخلفاء الثلاثة في مسألة جمع القرآن على حساب المساس بتواتر القرآن.
مجلة تراثنا، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، العدد: 111ـ 112، ص 91ـ 108.
حقيقة الوحي
حقيقة الوحي
من المفاهيم التي لها دور فعّال في حركة الرسالة وقد ركّزت عليها الأديان التوحيديّة عامّة والإسلام خاصّة؛ مفهوم الوحي، فما هي حقيقة الوحي، وما هو المراد منه؟
الجواب: من المصطلحات والمفاهيم التي وردت في القرآن الكريم: مصطلح (الوحي)، وقبل أن نسلّط الأضواء على هذا المفهوم من زاوية الرؤية القرآنيّة وما هي المجالات والاُطر التي استعمل فيها القرآن هذا المصطلح، نرى من اللازم أن نسلّط الأضواء على المعنى اللّغوي لهذا المصطلح:
قال ابن فارس: (الوحي أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء). [مقاييس اللّغة:6/93، مادّة (وحى)].
وقال الراغب: (أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل (أمر وحي)، وقد يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض). [مفردات الراغب:515، مادة (وحى)].
وقال ابن منظور: (الوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك) [لسان العرب:15/ 379].
وبالأخذ بعين الاعتبار، الكلمات التي نقلناها من كبار أصحاب الاختصاص من اللّغويّين العرب، يمكن القول حينئذٍ: إنّ الوحي هو ذلك الإلقاء إلى الغير الذي يكمن فيه عنصران: الأوّل: الخفاء، والثاني: السرعة. وإذا ما اُطلق على الارتباط بين النبي (صلّى الله عليه وآله) وبين الله سبحانه وعلى عمليّة تلقّي الأحكام والتعاليم الإلهيّة مصطلح (الوحي)، فإنّ هذا الإطلاق في الواقع ينطلق من هذه الحيثيّة، وذلك باعتبار أنّ ذلك نوع من التعليم غير الاعتيادي الخفيّ المقترن بالسرعة.
والذي يظهر من الشيخ المفيد (قدّس سرّه) أنّ المقوّم لإطلاق الوحي والعنصر اللازم له هو (الخفاء في التعليم)؛ حيث ذهب إلى أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء، بطريق من الطرق. [انظر: تصحيح الاعتقاد:120، فصل في كيفية نزول الوحي].
والحال أنّ عنصر السرعة أيضاً يُعدّ من مقوّمات الوحي بالإضافة إلى الخفاء.
بعد أن تعرّفنا على المعنى اللّغوي لمصطلح (الوحي)، ننتقل إلى الحديث عن تحليل وتحقيق المراد من الوحي في القرآن الكريم، وهنا يمكن الإشارة إلى مجموعة من المعاني التي استخدم فيها هذا المصطلح، ومنها:
الف: الإدراك الغريزي
لقد كشفت العلوم الحديثة كعلم الأحياء ـ وخاصّة في مجال دراسة الحيوانات التي تقوم على أساس غريزي ـ أنّ هذه الحيوانات تقوم بفعّاليّات وحركات وأعمال حيّرت العقول وأدهشت الفكر الإنساني، فعلى سبيل المثال: زنابير النحل وما تقوم به من الأعمال المدهشة التي تتّسم بالدقّة والإتقان والتنظيم وتوزيع المهامّ والأدوار، وكذلك العنكبوت وما ينسجه من البيوت رغم وصفها في القرآن الكريم بأنّها أوهن البيوت، فإنّها مع ذلك تتّصف بالدقّة والإتقان، فإنّ كلّ هذه الأعمال نابعة من عامل داخلي ونداء غريزي.
وبعبارة اُخرى: أنّها تقوم بذلك بصورة اُتوماتيكيّة ومن دون الحاجة إلى تعليم خارجي، وأنّها تطوي مسيرة حياتها اعتماداً على العنصر الأوّل وهو العنصر الداخلي الغريزي.
ولا ريب أنّ هذه الأعمال ـ التي تقوم بها تلك الحيوانات والتي يعجز الإنسان عن القيام بها ـ لا يمكن أن تصدر من دون علّة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لا يمكن القول إنّ هذه الحيوانات إنّما تقوم بهذه الأعمال بعد إعمال فكر وطيّ سلسلة من الحسابات العقليّة وإجالة الفكر بين حسابات الربح والخسارة.
إذاً، لابدّ من الإذعان أنّ ذلك لا يكون إلاّ وليد نوع من التعليم الخفي والرمزي الذي اُلقي إلى تلك الحيوانات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله سبحانه: {وَأَوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُللاً...} [سورة النحل:68ـ 69]. وعلى هذا الأساس تكون الأعمال المدهشة للنحل؛ كالتنظيم الهندسي للخلية وتوزيع الأدوار والحراسة ومنع الزنابير المريضة من دخول الخلية والتجوّل بين الأزهار ومصّ رحيقها، وتحويلها إلى شهد لذيذ و...، كلّ ذلك إنّما هو وليد العامل الغريزي.
ب: الإلهام والإلقاء في القلب
لقد استعمل مصطلح الوحي في القرآن بمعنى آخر وهو: الإلقاء إلى القلب، بمعنى أنّ الملقى إليه يصل إلى تلقّي الشيء ومعرفته من دون أن يرى الملقي أو يخضع إلى تعليمه المباشر له، وهذا التلقّي في الحقيقة معلول لعاملين، هما:
1. طهارة النفس: فقد تصل النفس في بعض الأحيان وبسبب الطهر المعنوي والسموّ الروحي والمعنوي والنورانيّة التي تتحلّى بها، إلى مقام تكتمل فيه لياقاتها وقدراتها بحيث تكون على استعداد لتلقّي الحقائق من الموجودات النورانيّة والشخصيّات الكاملة، بل تصل إلى درجة تلقّي تلك الحقائق من الذات المقدّسة لله سبحانه.
2. وتارة اُخرى قد تنحط النفس بحيث تصل إلى درجة من الدناءة والخسّة والوقوع في الظلمة، بحيث ترتبط حينئذٍ بما يسانخها من الأرواح الخبيثة، وتتلقّى منها التعاليم الفاسدة والأفكار المنحطّة والمخادعة التي لا أساس لها أبداً.
وإذا ما استعملت كلمة (الوحي) في الحالتين، فما ذلك إلاّ بسبب وجود ملاك الإطلاق وهو توفّر صفتي: الخفاء، والسرعة، في تلك التعاليم، والأفضل أن نطلق على القسم الأوّل عبارة (الإلهام والإشراق)، وعلى القسم الثاني (الوسوسة الشيطانيّة).
ج: وحي الشريعة
إنّ الإنسان العادي قد يتوصّل إلى النتائج التي يتوخّاها من خلال الحسّ والتجربة، أو إجالة الفكر والتدبّر والاستدلال، ولكن ذلك لا يعني انحصار طرق المعرفة وسبلها بهذين الطريقين؛ بل هناك طريق ثالث للمعرفة يفاض على النفس من العالم العلوي يكون الهدف منه هداية المجتمع الإنساني وسوقه إلى الكمال والرقي والتعالي، وهذا ما يطلق عليه اسم (الوحي التشريعي).
والحقيقة أنّ هذا الوحي التشريعي لا يختلف من جهة الماهيّة والحقيقة عن القسمين السابقين، نعم النكتة الكامنة في هذا القسم هي مسألة الهداية وإرشاد الناس إلى المبدأ والمعاد. وهذه الخصيصة اُخذت باعتبارها قيداً لازماً لهذا النوع من الوحي، حيث قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرينَ} [سورة الشعراء:193ـ 194].
وعلى هذا الأساس فإنّ الأنبياء وإن كانوا يمتلكون وسائل المعرفة كالحسّ والعقل، ولكنّ شريعتهم لا تكون نتاج تلك الوسائل المعرفية؛ بل أنّها جميعاً تتعلّق بالعالم العلوي، حيث ينزل الوحي على نفوسهم وأرواحهم وبأمر من الله سبحانه حاملاً رسالته وتشريعاته سبحانه، ولذلك لا يخطأون أدنى خطأ في ضبط وحفظ وإبلاغ وبيان الأحكام الإلهيّة.
ولذلك، فكلّ محاولة لتفسير ووضع حركة الأنبياء في إطار الهداية، بأنّها وليدة الحسّ والعقل، أو هي نتاج الاستعداد والنبوغ الذاتي للأنبياء، لا تبعده عن كونها محاولة انحرافيّة يسير صاحبها في طريق أعوج، ومن المستحيل أن توصله محاولته تلك إلى الهدف الذي يرومه، والحقيقة أنّ السبب الذي دعا أصحاب هذا التفكير الخاطئ إلى مثل هذه المحاولات هو عدم اعتقادهم بوجود عالم خارج عالم المادّة والطبيعة، فلذلك اضطرّوا إلى أن يضفوا على جميع الحوادث صبغة مادّيّة وأنّها نتاجات بشريّة نابعة من علل مادّيّة لا غير.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى طائفة من الأنبياء بقوله: {وَجَعلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدينَ} [سورة الأنبياء: 73].
وحينئذٍ لابدّ من معرفة المراد من الوحي في هذه الآية.
إنّ أغلب المفسّرين قالوا: إنّ المراد من الوحي هنا هو الوحي التشريعي الذي ينزل على جميع الأنبياء ليبيّن لهم وظائفهم ووظائف العباد والمهامّ التي لابدّ من القيام بها والتي تنظّم حياتهم، وعلى هذا، فالآية ناظرة إلى نوع خاصّ من أنواع الوحي، لا إلى جميعها.
نعم، بالالتفات إلى المباحث السابقة يمكن القول: إنّ للوحي معنىً واحداً لا غير، وإنّه قد استعمل في القرآن الكريم في هذا المعنى الواحد، وإنّ الاختلاف وقع في المتعلّق. ثمّ إنّ الملاك المجوّز لهذا الاستعمال موجود في جميع أنواع الوحي وهو: أنّ الجميع تشترك في كونها نوعاً من التعليم الخفي المقترن بالسرعة، سواء كان الطرف المتلقّي هو الإنسان أو سائر الحيوانات والجمادات، وسواء كان التعليم يتعلّق بهداية الناس وإرشادهم أو لا، وسواء كان المعلم الله سبحانه أو غيره. [منشور جاويد:10/79ـ 95].
بقلم: سماحة آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني
قداسة النصّ القرآني
قداسة النصّ القرآني
تدلّل الآية المباركة في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82]، على إلهيّة القرآن الكريم بعدم الاختلاف فيه، ونفي بشريّته المحضة بذلك، وتعميق ذلك يستدعي الحديث في ثلاثة محاور:
الأوّل: حاجة الإنسان إلى الوحي
الثاني: الأدلّة العقليّة على إلهيّة النصّ القرآني
الثالث: مناشئ توهّم بشريّة النصّ القرآني
المحور الأوّل: إنّ الحاجة إلى الوحي تنطلق من حاجة الإنسان الفطريّة إلى قانون يضمن به تلبية احتياجاته الروحيّة والجسمانيّة معاً، ولا يتحقّق ذلك إلا من يفهم التركيبة الخاصّة للإنسان والمجتمع، ويكون مترفّعاً عن المصالح الشخصيّة، وليس ذلك المقنّن إلا الله تبارك وتعالى.
المحور الثاني: هناك منحنيان للقول ببشريّة النصّ القرآني، الأوّل منهما: يتّجه إلى أنّ النص القرآني بدأ إلهيّاً عند تنزيله، وتحوّل إلى نص بشري عند تأويله وتلقّي النبي له بواسطة الوحي، فيما يتّجه الآخر إلى بشريّته حدوثاً وتكويناً، من دون توسّط الإلهيّة فيه.
يشترك المنحنيان في نتيجة واحدة وهي كون النص القرآني نصّاً أدبيّاً، وبالتالي يجب أن تحكمه مبادئ الدراسات النقديّة الأدبيّة من التحليل والتطوير وغيرها.
والمشكلة الجوهريّة التي تواجهها فكرة انسلاخ البعد الإلهي عن النص القرآني في مرتبة البقاء دون الحدوث أو الحدوث والبقاء معاً، هي مصادمتها للدليل العقلي القطعي على إلهيّة النص القرآني، واستحالة بشريّته، الذي ينتهي إلى أنّ التفكيك بين النصّ القرآني وبين الإلهيّة لا يمكن اجتماعه مع أهمّ خصوصيّتين للقرآن؛ وهما البيّنات والهداية، حيث أشارت الآية إلى ذلك: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة: 185]؛ لأنّ تصوّر الخطأ في النص القرآني يؤدّي إلى نقض الهدف من وجوده، وهو إثبات صدق مدّعي النبوّة من جانب، وضمان هداية الناس عند العمل به، والله تبارك وتعالى حكيم يمتنع عليه نقض غرضه.
وليس للقول بفكرة بشريّة النص القرآني إلا معنى واحد؛ وهو الغاء الدور الإعجازي والهدايتي للقرآن الكريم، والذي ينتهي إلى نسبة العبثيّة لله تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
المحور الثالث: إنّ أهمّ الدوافع التي ذهبت إلى توهّم فكرة بشريّة النص القرآني، عبارة عن ثلاث إشكاليّات:
الإشكاليّة الاُولى: أغلب آيات القرآن الكريم لها سبب نزول خاص بها، تعكس كون نصوصه تمثّل قضايا شخصيّة، ناتجة عن المحيط البيئي والثقافي الذي عاشه النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله).
وفي مقام الردّ على هذه الشبهة، نقول:
إنّها تُنبى عن جهل بالفرق بين نزول الآية في الواقعة المعيّنة، وبين نزولها لأجل الواقعة المعيّنة، فكثير من الآيات ـ وإن نزلت في مورد خاص ـ لكنّ ذلك لا يعني حصرها وعدم تعميمها للحالات المشابهة لها، كما نصّ عليه العلماء بقاعدة (المورد لا يخصّص الوارد)، هذا أوّلاً.
وأمّا ثانياً: إنّ القول بأنّ أكثر آيات القرآن ترتبط بسبب نزول خاص بها، يحتاج إلى إثبات، بل الدليل الاستقرائي يبطل ذلك، حيث ذكر مجموع الآيات القرآنيّة التي ترتبط بسبب نزول لا تتجاوز (٧٢٤) آية من مجموع (٦٢٣٦)، الذي يمثّل مجموع عدد آيات القرآن الكريم.
الإشكاليّة الثانية: وقوع الأخطاء النحويّة في بعض النصوص القرآنيّة، ممّا يدلّ على بشريّته كما في الآية {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [سورة طه: 63]، والصحيح أن يُقال: إن هذين لساحرين.
والجواب من وجوه ثلاثة:
الأوّل: إجماع علماء اللّغة على مرجعيّة القرآن في تأسيس القواعد النحويّة، وبناء عليه لا يصحّ أن تخطأ القاعدة النحويّة القرآن، بل القرآن هو الحاكم عليها بمقتضى مرجعيّته العليا.
والثاني: يتّفق أهل اللّغة على الرجوع إلى كلمات العرب للأخذ منهم، ويعتبر النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) معاصراً لهذه الطبقة وأحد رجالاتها الذين يُستشهد بكلامهم في البناء النحوي، ولو كان خطأ كيف لا يلتفت إليه، لا هو ولا أحد فصحاء العرب!!
الثالث: للجملة العربية عدّة وجوه إعرابيّة صحيحة، ولكلّ وجه دليله، والآية المذكورة لها عدّة وجوه، منها: ورود كلمة (إن) مخفّفة، وحكمها الإهمال، وعندئذٍ تكون كلمة (هذان) مبتدأ مرفوع، و(ساحران) خبر.
أو ورودها بمعنى (نعم)، ويكون مفاد الجملة: نعم هذان لساحران.
أو ورودها بمعنى (ما) النافية، واللام بمعنى (إلا)، ويكون مفاد الجملة: ما هذان إلا ساحران، وغيرها من الوجوه الإعرابيّة.
والحاصل: أنّ كلّ دعوى تحمل توهّم وجود الخطأ النحوي في النصوص القرآنيّة، تكشف عن الجهل بالقواعد اللُّغويّة، ومعارضتها للاُسس البنائيّة لها.
الإشكاليّة الثالثة: وجود التناقض في آياته، حيث يعبّر تارة بأنّه {هُدًى لِلنَّاسِ}، واُخرى هدًى لفئة خاصّة وهُم المتّقون فقط {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.
والجواب: بأنّ هداية القرآن للناس كافّة بمعنى الهداية الاستعداديّة، أي: للقرآن قابليّة واستعداد أن يهدي كلّ من تمسّك به.
بينما هداية القرآن للمتّقين، هداية فعليّة وواقعيّة، ولا تناقض بينهما، لاختلاف متعلّقهما.
هوامش قرآنيّة
* ولا ريب أنّ قداسة النص القرآني وإلهيّته وصيانته عن التحريف قطعيّة، لا تعارضها أدلّة وأخبار ظنيّة، لأنّ القطع حاكم على الظن.
*ودعوى أنّه تبيان لكلّ شيء، وعندئذٍ لا نحتاج إلى الأحاديث الشريفة أو المرجعيّة العلميّة في فهم النص القرآني، مرفوضةٌ؛ لأنّها تناقض القرآن نفسه، وهي خروج عن مبادئه التي تنص على اعتبار النبي (صلّى الله عليه وآله) (اُسوة) في أقواله وأفعاله وتقريراته، وعلى سؤال أهل الذكر الذين يعدلون القرآن في مقام الحجّيّة والنتيجة المحكيّة بالأمن من الوقوع في الضلالة عند التمسّك بهما.
*وتوهّم القدرة على استخراج كلّ شيء من القرآن دون الرجوع إلى أهل الذكر، بحجّة أنّه (تبيان) لكلّ شيء، ناشئ عن الجهل بالمعنى الدقيق لجملة {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89]، وهو كلّ شيء يحقّق غرض وأهداف القرآن، وهي الهداية والكمال والصلاح وشفاء القلوب، أو التبيان بمعيّة الثقل الآخر المعادل له.
*وأخيراً: لا سبيل للعزّة والكرامة والوحدة والحصانة من الوقوع في الفتنة إلا عبر تفعيل القرآن وتجسيده في حياة الاُمّة قولاً وفعلاً.
إذ ليس مشكلة مجتمعاتنا أنّه لا يقرأ القرآن، بل لأنّه لم يكن مجتمعاً قرآنيّاً، وفرق بين المجتمع القرآني والمجتمع القارئ، والذي يخلق الوعي والبصيرة ويوجب الحصانة من الوقوع في الزيغ وابتغاء الفتنة، هو الأوّل دون الثاني.
بقلم: الشيخ علي العبود
أبحاث قرآنيّة
أبحاث قرآنيّة
قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الجاثية: 1-3]
النقطة الاُولى: الفرق بين الإنزال والتنزيل
تارة نقرأ في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [سورة القدر: 1]، واُخرى نقرأ هذه الآية الشريفة: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الجاثية: 2].
تُشير الآيتان إلى مصطلحين: التنزيل، والإنزال.
أمّا الإنزال فمعناه: أنّ القرآن اُنزل دفعة واحدة (حركة دفعيّة)، وأمّا التنزيل فمعناه: أنّ القرآن اُنزل على دفعات (حركة تدريجيّة) مفصّلاً.
ولا تتعارض الآية في سورة القدر مع الآية في سورة الجاثية؛ لأنّ القرآن اُنزل دفعة واحدة في ليلة القدر، ثمّ بعد ذلك وفي مناسبات متعدّدة اُنزل بالتفصيل على حسب مناسبة النزول على مدى 23 سنة.
السؤال الذي يُطرح هنا: إذا كان القرآن قد اُنزل دفعة واحدة على الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فهل يمكنه أن يتحمّل ويحتفظ بهذا الكتاب الضخم المتضمّن لكلّ التشريعات والأحكام والقوانين الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة و...؟
نقول: يُوجد لدينا رأيان:
الرأي الأوّل: القرآن اُنزل بألفاظه وحروفه وتعليماته وأحكامه على قلبه المبارك {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [سورة الشعراء: 193-194]
ولا يُوجد مانع في ذلك؛ لوجود تجانس بين القابل والفاعل.
لدينا قاعدة تقول: حتى يتمّ تأثير الفاعل في القابل، لابدّ من مجانسة بينهما، فالنار- مثلاً - لا تحرق إلا ما يجانسها من المادّيات، فالوحي القرآني أمر نوراني وقلب الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو محض النور، فالفاعل والقابل متجانسان.
الرأي الثاني يقول: إنّ القرآن له وجودان: وجود لفظي، ووجود عيني، أمّا الوجود العيني فهو الذي اُنزل على قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله).
الوجود العيني: هو حقيقة الشيء المشخّصة العينيّة، يُقال ـ مثلاً ـ : جاء فلان عينه؛ أي: بنفسه وحقيقته. وللقرآن وجود عيني؛ أي: حقيقة خارجيّة، ليست الحروف والألفاظ، إنّما الحروف والألفاظ مظهر له، وأنّ ما اُنزل على قلبه حقيقة القرآن العينيّة وعلى حسب المناسبات تأتي التفاصيل، وهذه الحقيقة غيبيّة غير معلومة الكنه لدينا.
والدليل على هذا القول: قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [سورة الشعراء: 193-194].
المُراد بالقلب: الوجود المجرّد لا الوجود المادّي، فلابدّ أن تنزل عليه حقيقة مجرّدة تتجانس معه، وهي حقيقة القرآن الغيبيّة. مثال: النفس والعلم، تلقّي النفس للعلم إنّما هو انطباع المجرّد في المجرّد.
الدليل الآخر: قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [سورة المزمل: 5]، دليل على حقيقة عظيمة لا يحتملها الإنسان، فقد رُوي أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يتصبّب عرقًا حين الوحي أو أنّه كان يُغمى عليه حين نزوله. لا أحد يعرف كنه الوحي وما الذي ينزل عليه؛ فهو سرّ بين الله وبين رسوله.
خلاصة النقطة الاُولى: القرآن حقيقة عينيّة نزلت على قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله) لمجانسة بين قلبه المجرّد وبين الحقيقة المجرّدة.
النقطة الثانية: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الجاثية: 2]
تُشير هذه الآية إلى أنّ القرآن نزل من مقام الذات. لدينا مقام الذات ومقام الفعل، عندما نتكلّم عن الله أنّه حكيم، ذاته كلّها حكمة، ذاته كلّها عزّة، فهو حكيم، عليم، لا يحتاج لطرف آخر.
أحياناً لا، حتى نَصِف الله نحتاج طرفاً آخر من مخلوقاته حين نصفه بأنّه خالق، رازق، مالك نصفه بأفعاله، وهذا يسمّى مقام الفعل.
القرآن اُنزل من مقام الذات وليس من مقام الفعل، ليدلّل على أنّ القرآن نزل من مقام عظيم؛ فلا نقرأه كما نقرأ كتاب الفيزياء والطب التي لها مقام واحد.
القرآن نزل من مقام الذات؛ من الله العزيز الحكيم، لا يصدر عنه إلا القوّة والعزّة المتناهية.
الأمر الآخر: إنّ القرآن ليس فقط اُنزل من مقام الذات ثمّ انفصل عن مقام الذات؛ بل إنّه بقي واكتسب صفات الذات؛ لذلك فشل الشرق والغرب في محاولتهم قهر القرآن.
النقطة الثالثة: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الجاثية: 2]
تتكلّم اﻵية عن عدة اُمور:
يُقصد باﻵية العلامة، وتنقسم الآيات إلى عدّة أقسام:
علامة؛ مثل: إشارة المرور، نسمّيها علامة وضعيّة أو اعتباريّة اتّفق المجتمع على وضعها؛ كالقوانين الاجتماعيّة.
آية عقلية؛ كالدخان يدلّنا على النار، والشجرة تدلّ على خصوبة الأرض، عقلنا يوصلنا إلى ذلك.
لكن هناك علامة غير الاُولى والثانية، وهي ما يقصدها القرآن: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الجاثية: 3].
هناك علامة غير الوضعيّة والعقليّة، اليوم الذي تصفرّ فيه الشجرة تنتهي الدلالة العقلية، القرآن يريد دلالة لا تنتهي، الشجرة وإن كانت مخضرّة أو مصفرّة، هذه السماء وهذه الأرض دالّة على وجود الله، ولهذا ليست وضعيّة ولا عقليّة وتسمّى (دلالة حقيقة أو تكوينيّة) وهي لا تنفصل عنها.
لو تأمّلنا الآيتين: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، هنا فرق في الإشارة القرآنيّة. في السماوات والأرض جهات متعدّدة:
فانظر للأرض والسماء بشكل مستقل، بنفسها، بذاتها فهي دالّة على وجود الله.
أو انظر للسماء؛ إنّها بديعة التركيب من جهة، فهي آية.
أو انظر إليها؛ إنّها مزيّنة بالنجوم، إنّ فيها سكّاناً، إنّ فيها عجائب، فهي آية من آيات الله.
وهكذا الأرض، تحمل الإنسان، فيها نموّ، فيها نباتات، توفّر الحياة للإنسان.
أو انظر إلى ما تحمله السماوات والأرض من مخلوقات؛ كلّ مخلوق يُعدّ آية من آيات الله.
الإنسان لوحده آية، الجن لوحده آية، وكذاك الهواء والملاك والنبات.
عندما نقرأ كربلاء من جهات متعدّدة أو مستقلّة، فهي آية لم يُشهد لها مثيل؛ لا بدر ولا اُحد ولا حنين.
مع أنّ تلك كلّها كانت بقيادة المعصوم، لكنّها لم تُخلّد كما خُلّدت كربلاء، حينما أنظر إليها من ناحية أدبيّة فهي آية، ومن ناحية عرفانية، تاريخية و... فهي آية.
كربلاء تمتلئ بالمضامين والمفردات؛ فالعباس آية، وحبيب آية، ...، وكربلاء تمتلئ بالآيات لذلك يقول رأس الحسين: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا}؛ بل رأسك أعجب وأعجب؛ بل أعظم الآيات.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
الاُستاذة الفاضلة السيّدة أم أحمد آل سيف
معاجز النبي (ص) في القرآن الكريم
|
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
أهل البيت لغة وعرفاً
أهل البيت لغة وعرفاً هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم، ويمكن تحديد مفهوم "الاَهل" من موارد استعماله فيقال: 1- أهل الاَمر وا...
-
أهل البيت لغة وعرفاً هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم، ويمكن تحديد مفهوم "الاَهل" من موارد استعماله فيقال: 1- أهل الاَمر وا...
-
======== آدم وحواء.. في القرآن الكريم ======== (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ و...
-
هذا رسول الله المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق اللَّه محمد المصطفى و...